يبدو أن هناك فريقين يتنازعان تفسير هذه القاعدة العتيدة. فريق من المسلمين من الذين يغلب عليهم الاعتدال والوسطية يفسرونها بمعنى التكيف العملي الذى تحتمله النصوص القابلة للاجتهاد والتنزيل على الواقع في إطار السياق الزمني والمكاني. وفريق آخر من الذين يغلب عليهم النهج السلفي التقليدي أو المتشدد يفسرونها بأنها تطبيق النص كما هو بالمعنى الذي كان مفهوما وقت صدور النص ما دام صحيح المصدر.
تفسيران مختلفان، لكن ليس في اختلافهما ما يبعث على العجب. فقد عرفنا أنه كان في صدر الإسلام مدرستان في الفقه -هما مدرسة عبدالله بن عمر رضي الله عنه المعروف بتشدده، ومدرسة عبدالله بن عباس رضي الله عنه- المعروف بكونه أقل تشددا. ولم يضار الإسلام من هذا الاختلاف، لأنه لم يمس الثوابت في العقيدة، ولأنه انعكاس لسماحة الإسلام، ولأن كلا المدرستين كانتا ملائمتين لطبيعة العصر وثقافته وطبيعة الناس الذين عاشوا في ذلك العصر. وفي المائة الثانية بعد الهجرة لم يعد هناك مدرستان بل عدة مدارس أو مذاهب تتوحد في الثوابت وتتعدد في الاجتهاد. فهذا أبو حنيفة النعمان يأخذ بمبدأ القياس والرأي، ومالك بن أنس يؤصل لمبدأ المصالح المرسلة، والشافعي يعيد النظر في بعض فتاويه وآرائه بعد أن انتقل من العراق إلى مصر. ثم هذا أحمد بن حنبل يميل إلى السماحة في فقه المعاملات. أما الأشاعرة فيجمعون بين النقل والعقل في اجتهادات مذهبهم. هؤلاء العلماء لم يغيروا فى النصوص الصحيحة وإنما اختلفوا في تقدير معنى بعض النصوص ومقاصدها. فالمرء قد يفسر معنى الشيء وفق ما يصل إليه تصوره في ضوء معطيات الواقع الذى يعيشه. فإذا تغير الواقع في الزمان أو المكان اهتز التصور السابق.
وكما يقال: الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ فإن بقي الحكم على التصور السابق المبني على معطيات واقع منصرم مختلف عن الواقع الراهن ربما فقد الحكم شيئا من منطقه وصار متناقضا مع عصر. وهذا- كما ذكرت آنفا- خاص بالأمور الاجتهادية وليس بالثوابت الشرعية المعلومة. وهكذا الحال في فهم معنى أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. فالفريق المتشدد قد يفسر هذه القاعدة بأن كل ما يقوله أو يعمله السلف الصالح في زمانهم - سواء في ذلك الثوابت الشرعية أو الأمور الدنيوية والعرفية- صالح للتطبيق كما هو في زماننا الحاضر، فكل ذلك من الدين ما دام صادرا عنهم. أما الفريق المعتدل أو الوسطي فقد يرى وجوب فهم الواقع ونوازل العصر أولا ثم إمعان النظر في النصوص غير القطعية شرعا لتطبيقها وفق ما يتسع له فهم معانيها ودلالاتها ومقاصدها. هذا الاستيعاب للمعاني والمقاصد هو الخاصية الفريدة للتشريع الإسلامي. وهناك بعض القضايا التي يمكن إيراد نماذج منها لاختبار صواب هذا المفهوم:
النموذج الأول - تزويج الصغيرات:
كان هذا الموضوع واحدا من المواضيع التي تضمنها جدول أعمال المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الواحدة والعشرين المنعقدة في الأسبوع الأخير من شهر محرم 1434هـ. وقد شعرت بخيبة أمل من عجز المجمع عن البت فى هذا الموضوع وقرار تأجيل بحثه لاستكمال دراسته. وبصرف النظر عن سبب التأجيل- سواء كان قصر مدة اجتماع المجمع وهي خمسة أيام لا تكفي لمناقشة موضوعات عديدة كلها هامه، ويتطلب كل منها وقتا كافيا للمناقشة وإعادة المناقشه والنظر في مختلف الأفكار المطروحة؛ أو أن التحضير للموضوع من قبل واضعي الدراسة أو المجتمعين لم يكن كافيا؛ أو من تمسك البعض بمواقف مسبقة متشددة في فهم صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان ولا تطيق سماع وجهات نظر مخالفة، فصار من الحكمة إذن تأجيل الموضوع إلى اجتماع آخر خروجا من الخلاف كالعادة - فإن عدم الحسم لم يكن القرار الصحيح في قضية تتجلى فيها الفروق الكبيرة بين زمن صدر الإسلام وزماننا، من حيث مراعاة مقام الشخصيات العظيمة في ذلك الزمن، ومن حيث اختلاف ظروف الحياة والوضع الاجتماعي (للمرأة خاصة)، إلى جانب أن تزويج الفتاة البكر مشروط باستئذانها. وهذا يجعلنا لا ننتظر من فتاة في المرحلة الدراسية الابتدائية أو المتوسطة في زمننا الحاضر أن تدرك معنى ما تستأذن فيه. لذلك فإن تحديد حد أدنى لسن الزواج لا يخالف الشرع ولا يقدح في صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان بل يؤكدها.
النموذج الثانى- جهاد الطلب والاسترقاق:
قرأت لأستاذنا الكاتب الكبير الدكتور حسن الهويمل في الجزء الأول من مقالة له نشرتها صحيفة (الجزيرة) بتاريخ 5-2-1434هـ تحت عنوان (لا يزالون مختلفين) هذه العبارة: (ومن المؤسف أن البعض يتصور أنه لا مكان البتة لا للرق ولا لجهاد الطلب، وكأن الإسلام لم يعد صالحا للعصر. وذلك ما يود إشاعته المستشرقون والعلمانيون). وفي اعتقادي - إن كنت فهمت السياق الذي وردت فيه العبارة جيدا- أنه لا حاجة لتخصيص المستشرقين والعلمانيين بهذا القول لأنه ليس مرتبطا بموقف فكري أو مذهبي معين بل بالمنطق التاريخي والعلمي؛ فليس هو الإسلام الذى لم يعد صالحا للعصر وإنما هي صلاحية جهاد الطلب والرق، لماذا؟
لأن الإسلام -وإن كان لم يحرم الرق- إلا أنه لم يأمر به لا في حرب ولا في سلام، بل شجع على تحرير الرقبة بأن جعله كفارة للعديد من الذنوب. ومعلوم أن تجارة الرقيق قد حرمت في كل دول العالم بما فيها المملكة. وكان تجار الرقيق العرب حتى القرن العشرين يفعلون مثلما كان يفعل غيرهم في دول الإمبراطوريات الزائلة ودول الاستعمار الأوروبي يتاجرون برقيق تم شراؤهم أو اختطافهم من مناطق آسيوية أو إفريقية ضاربين بوازع الدين والأخلاق عرض الحائط. الرق - مهما كان منشؤه - هو امتهان للكرامة الإنسانية، ولن يكون مقبولا في عصرنا الحاضر أو العصور المقبلة التي يسود فيها التعليم والوعي واحترام حقوق الإنسان أن نعود إلى سلب الإنسان حريته؛ ألم يقل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- (وإن كان في سياق آخر): كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ ولا يحتاج الإسلام العزيز القوي أن يظهر المسلمون تفوقهم باسترقاق البشر، بل بقوة الإيمان والعقيدة والتقدم فى علوم العصر وقيادة العالم في التمسك بالقيم والأخلاق الفاضلة.
يهدف جهاد الطلب - كما هو معلوم- إلى إعلاء كلمة الله ونشر الإسلام، وكان ذلك واجبا مشروعا أمر الله به وتتطلبه الدعوة لدين جديد فى فجر الإسلام وإزاء المواقف العدائية للدول المحيطة بالجزيرة العربية- وهي دول تعتدي على غيرها وتتوسع بالحروب والسيطره وتناصب الإسلام العداء، وعلى الأخص الإمبراطوريات الرومانية والفارسية. وقد وصلت الفتوحات الإسلامية في عصر الدولة الأموية إلى الهند ووسط آسيا وجميع شمال إفريقيا ثم الأندلس. لكن الدعوة للإسلام لم تتوقف عند حدود الفتوحات الحربية، بل انتشرت حتى أقاصى جنوب شرق آسيا وغرب إفريقيا من دون فتوحات أو حروب. فقد قام التجار المسلمون ومنهم أصحاب علم بالدين ومعروفون بالسماحة وحسن التواصل بدور كبير في ذلك.
الدعوة للإسلام ونشره ممكنة إذن بنوع آخر من جهاد الطلب هو القوة الناعمة بسلاح الحكمة والموعظة الحسنة والقدوة الصالحة والإعلام المتقن الذى يجيد مخاطبة الشعوب المنتمية لثقافات مختلفة ويبرز الصورة النقية الصحيحة للإسلام.
وهذا لا يحتاج إلى شن حروب أو هجمات على دول غير مسلمة واسترقاق المهزومين. والذين يرون إمكانية جهاد الطلب - بالمفهوم السلفي التقليدي مصحوبا بالرق- عندما تقوى دولة الإسلام (دولة خلافة مثلا؟) عليهم أن يتذكروا المصير الذي آلت إليه دول إسلامية عظمى كالدولة الأمويه والدولة العباسية والدولة العثمانية التي بدأت قوية ثم ضعفت من جراء استنزاف مواردها وتشتت قواتها وبعد أقاليمها وتهاون أو تنازع حكامها، وصارت لقمة سائغة للطامعين فيها ابتداء بالأطراف وانتهاء بالمركز. هذا في وقت لم يكن فيه دول غير مسلمة تملك مخزونا ذريا هائلا مثل روسيا وأمريكا أو دول يقطنها مليار وأربعمائة مليون نسمة مثل الصين! ولعل أخطر ما في الوعيد بجهاد الطلب والاسترقاق عند قيام الدولة الإسلامية القوية أنه يجعل شعوب العالم ترى في هذه الدولة المنتظرة عدوا يهددها ويبيت الشر لها. فكأننا بالتلويح بهذا الوعيد نخلق أعداء كان بالإمكان كسبهم بالقوة الناعمة كما أسلفت، وكما تدل عليه تكملة عبارة الدكتور حسن الهويمل التي أشرت إليها آنفا وهي: إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. ولكن لا بد أن يحمله إلى الناس علماء عدول يعرفون مقاصده ويراعون مصالح الأمة.