-1-
تعمدت في الأسبوعين الأخيرين متابعة مختلف الشاشات المصرية محاولاً فهم ما يحدث في مصر على لسان المصريين بمختلف اتجاهاتهم واختصاصاتهم وما أكثرها والحمد لله، لقناعتي أن قراءة النصوص الصامتة وحتى دراسات المتخصصين غير كافية للشعور بنبض الحياة السياسية التي تعيشها الأم الشرعية للعرب والعروبة مهما حاول ملتزمون دينياً أو مثقفون ليبرالياً أو حتى حكامٌ محدودو الآفاق، مهما حاولوا نزع هذه الصفة عنها.
أعترف أني بقيت لساعاتٍ يومياً متسمّراً أمام الشاشات، مشدوهاً بحيوية النخب المصرية أياً كان اتجاهها ومسارها وهي حيوية استثنائية بكل المقاييس. الشجاعة أولاً، الاندفاع ثانياً، والمعرفة العميقة بالملفات المطروحة.. أما الجهل والتبسيط الشمولي لما يحدث تحت عنوان المؤامرة فهو كما تبيّن من مراقبتي من اختصاص الحزب الذي انتُخب منه الرئيس والذي لم ولن يستطيع أن يكون حزباً حاكماً بالمعنى المتعارف عليه في الأنظمة الديمقراطية حديثة الولادة.
أعترف أيضاً أني شعرت بالحبور والسرور والفرح وكل مفردات الثقة، وأنا أشاهد المسيرات السلمية تتدفق في كل الاتجاهات لتطالب بالتغبير من ساحة التحرير إلى قصر الاتحادية إلى كل المواقع التي طالتها الانتفاضة الشعبية.
-2-
في قراءةٍ هادئة للمشهد المصري عموماً، وأياً كانت نتائج المرحلة المقبلة في مصر دستورياً، فإن حاكم مصر لن يستطيع مهما حاول الاستنجاد بالنص الإلهي والأنبياء والأولياء أن يتجاوز حقيقة أن الحرية بمعناها العميق - والتي أتت به رئيساً - ليست حقاً حصرياً له أو لحزبه، بل هي حقٌ لكل المصريين دون استثناء.. وإذا كان يسيء استعمال نتائجها في الحكم اليوم، فإن الشعب المصري قد برهن أنه يتطور في استعمال الحرية كل يوم للصالح العام للدولة.
لم يعد مهماً - بالنسبة لي على الأقل - من يحقق الربح المرحلي، إذ ليس هناك من انتصارات في المراحل الانتقالية، المهم أن هناك قواعد أكيدة وجديدة لآلية القرارات التأسيسية لم تتبلور بشكلها النهائي بعد ولكنها ليست لصالح قدرة حزبٍ يحلم بأن يكون حاكماً أياً كانت صفته الإلهية.
وبما أني بدأت الحديث عن الصورة المنقولة على الشاشات سوف أشرح هنا رمزية أربعة من الصور رسخت في ذهني محاولاً عبرها اختصار قراءتي السياسية والدستورية.
نبدأ من الديكور في الصورة الأولى: الرئيس المصري المنتخب جالس وراء مكتبه بعد أن أحدث تغييرات شكلية دينية المضمون.
وضع القرآن الكريم على طاولته بشكل ظاهر وخلفه لوحتان لآيات قرآنية أضيفتا إلى الصورة في المكتب الرئاسي.
-3-
لماذا يحتاج رئيس مصر إلى رمزية القرآن الكريم بهذا الوضوح الهندسي وخلفه آيات قرآنية ليثبت أن مصر دولة إسلامية في غالبيتها العظمى عددياً وفي دورها الرائد التاريخي في الإسلام؟
الحقيقة أن الرئيس محمد مرسي أراد أن يربط صورته بالمقدّس من الدين أي المُنزل من عند الله جلّ جلاله، متجاهلاً عن عمد أنّ الدين لا يحتمل إقحامه في مسار الأكثرية والأقلية الذي يتحكم بانتخاب الرئيس، ففي ذلك إفسادٌ للدين وتخريب للدولة معاً، وإخضاع كليهما لأهواء الحزب الحالم بأن يكون حاكماً.
لقد أراد أن يزرع الشك بين المصريين ودولتهم الأكثر استيفاءً لشروط الدولة - الأمة، أراد أن يفتعل بينهم أزمة سياسية - دستورية عنوانها مشكلة الهوية، مشكلة تعريف الدولة (نظام الحكم وحدود السلطات)، وتعريف الشعب (من هو المصري، المواطَنة، الحقوق..) وتعريف الشرعية (تمثيل إرادة الأمة وسيادتها).. والأخيرة، أي تعريف الشرعية هي الأكثر استعصاءً، بالنظر إلى ما تضمره من خلطٍ وشعوذة بين شرعية دستورية، شرعية تاريخية، وشرعية ثورية، وشرعية فقهية - دينية، وكل واحدة من هذه الشرعيات في هذه اللحظة، مبهمة ومتضاربة فيما بينها.. وفي هذه الحقيقة تأسيسٌ للقول أن أصل الأزمة المصرية الراهنة، بوجهيها الإجرائي والسياسي، مصدره تضارب تلك الشرعيات وتنازعها على حق كتابة الدستور وصوغه.
-4-
هناك أمر مبدئي يتعلق بحق أحزاب الإسلام السياسي بالمشاركة السياسية استناداً إلى المواطنة وحقوقها وحرياتها.. ومن ضمن هذه المشاركة إمكان الوصول لتشكيل الحكومات وتصدر الرئاسات.. لكن هناك أمراً آخر مبدئياً أيضاً، وهو يتعلق بالفروق بين النظام والدولة.. فالدولة هي الضامنة للحقوق الأساسية والمساواة بين المواطنين فيها وهي الضامنة للتلاؤم مع المحيط ومع العالم، والديمقراطية تشمل الأمرين: الاستناد إلى الثوابت التي لا تتزعزع في الدول، والاستناد إلى مبدأ الاقتراع العام في تشكيل البرلمان والحكومات.. ومن ضمن الثوابت الدستور بمبادئه العامة والأساسية ومن ضمن الثوابت فصل السلطات، واستقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
فعلى الرغم من أن الجمعية التأسيسية أقرت في مسودة الدستور بمادته الخامسة أنّ: «السيادة للشعب يمارسها ويحميها ويصون الوحدة الوطنية وهو مصدر السلطات»، إلا أن 9 من أعضاء الجمعية خرجوا من الإجماع ورفضوا تلك المادة التي يصح وصفها بأنها أم الدستور وركنه.. أولئك الأعضاء التسعة هم من السلفيين الذين يُوكلون السيادة ومصدر السلطات الحاكمية للّه جلّ جلاله، متجاهلين مرة أخرى أن الدساتير إنما تكتبها الأمة جمعاء عبر ممثّليها، بأغلبيتها وأقلياتها، وتكون صياغته حائزة على إجماع أولئك الممثلين قبل طرحه على الاستفتاء العام.. غير أن الجمعية التأسيسية المصرية التي أُنيط بها كتابة الدستور، وبعد انسحاب ربع أعضائها.
-5-
اتصفت بهيمنة الإسلاميين، أو أحزاب الإسلام السياسي، مستبعدةً بذلك الكنيسة القبطية والأقليات الأخرى والتيارات المدنية والليبرالية واليسارية والقومية واليسارية والمستقلين وممثلي الفئات المهنية كالاقتصاديين والفلاحين والصناعيين والحقوقيين... إلخ، وبدا واضحاً أن السلطة السياسية (الإخوان المسلمين) هي التي تنفرد وحدها بإنشاء الدستور، من غير فصل بين الأغلبية الانتخابية للسلطة وبين تمثيل إرادة الأمة ووحدتها.
الأغرب في نصوص بعض المواد الدستورية أنها تحيل تطبيق مضمونها أو تفسيرها إلى قانون لم يصدر بعد.. مع العلم أن الدساتير في مضمونها التأسيسي هي فوق القوانين ولا يجوز إحالة تطبيقها إلى قوانين سابقة أو لاحقة.
الصورة الثانية: وهي الأهم المؤتمر الصحافي الذي عقده المرشد العام للإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع محاطاً بأركانه واقفين وكأنهم حرس الإله الفرعوني.
استطاع الدكتور بديع - الذي تعرفت إليه شخصياً في بيروت - أن يقسّم الشعب المصري إلى شعبين بأسرع ما يُمكن لأي حزب حالم بأن يكون حزباً حاكماً أن يفعل.. بكل بساطة قال 40 أو 50 مليوناً يؤيدون الإخوان والملايين الثلاثين الباقية على الأقل متخلية عن وطنيتها ومنفصلة عن الثورة التي يدّعي المرشد العام أن حزبه وحده قام بها.
-6-
وعلى إيقاع الوعيد والتهديد اعتبر بديع أن من انتخب الفريق أحمد شفيق الذي نال 49 بالمائة من أصوات الناخبين، اعتبر هؤلاء الناخبين منفصلين عن الثورة، تحت نظرية الأخيار والأشرار.
وأن الدكتور محمد البرادعي دمّر العراق أثناء رئاسته للوكالة الدولية الطاقة الذرية ولم يعش في مصر وبالتالي لا يملك حق التعبير عن آراء المصريين.. ولم تشفع عروبة عمرو موسى ولا ناصرية حمدين صباحي لهما عند المرشد العام.
يستند المرشد العام في عليائه الكلامي إلى ثلاثة عناصر.
العنصر الأول: هو كلمة الشورى التي يترتب عليها بروز قوى مستقلة عن الشعب ومتعالية عليه كمساهم في كتابة الدستور وهي صيغة مستقاة من التجربة الإيرانية التي وضعت أسسها الدستورية أيام الراحل الإمام الخميني وتعتمد على هيئات أو أسماء مختارة من السلطة بدل أن تكون منتخبة من قبل الشعب وممثلة لمختلف اتجاهاته ومكوناته مما يفتح الباب واسعاً أمام ولاية دينية على أهل السنّة للمسلمين تشبّهاً بمثيلتها في إيران أي ولاية الفقيه المُختلَف حولها والمسبّبة للكثير من الاضطرابات السياسية داخل المجتهدين من المسلمين الشيعة والانشقاقات المذهبية داخل المجتمعات العربية.
-7-
صحيح أن شيخ الأزهر الحالي يتمتع باحترام كبير وبمصداقية وطنية عند الغالبية العظمى من المصريين.. لكن النص الوارد في الدستور بشأن الأزهر لا يستند إلى الشيخ الموجود الآن في سدّة الأزهر الشريف، بل يراد من النص افتعال استقلالية مبالغ بها تحت عنوان «الإسلام هو دين الدولة»، بمادة أساسية كاملة (المادة الرابعة) فجعلته هيئة إسلامية مستقلة، أي هي متصلة بالأمة الإسلامية بما يتجاوز حدود الدولة وسلطتها وقوانينها، وربما تعلوها مكانة وقدرة ونفوذاً، وهي معصومة من القوانين العامة باستقلالها، فالأزهر - حسب تلك المادة - «يختص وحده بالقيام على كافة شؤونه» وعلى الدولة كفالة «الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه»، وشيخ الأزهر «مستقل غير قابل للعزل والشريعة هي مصدر التشريع والقوانين، وللأزهر حق رقابة ونقض كل قانون لا يتواءم مع الشريعة الذي له وحده حق تفسيرها، علاوة على ما أضافته مسودة الدستور على دستور 1971 في مادة دين الدولة الإسلام مادة تفسيرية هي «مبادىء الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنّة والجماعة في خلط واضح بين الدستور والعقيدة الذي لا نجده في الدساتير عموماً.. وهي في مساراتها المستقلة وممارستها وبسبب عموميتها قد تفرّط بروابط المواطنة وتعود بالتالي إلى نظام الملة والجماعات.
يُؤكد هذا المنحى أن صلاحيات هيئة كبار العلماء مُحالة إلى قانون يتولى وضعه وتسويقه في فترة لاحقة الرئيس مرسي.
-8-
هذا التمييز مثلاً لا يقابله ما يوازيه للكنيسة القبطية، ولا للأقليات الدينية الأخرى، ما يطعن مجدداً بالنصاب السياسي الجامع، وبالمساواة وبوحدة الشعب.
العنصر الثاني: هو الجيش الذي حظي بحماية دستورية لم يسبق لها مثيل، وهي، حسب تقرير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، عبارة عن «صفقة واضحة بين الرئيس وحزبه من جهة وضباط الجيش من جهة أخرى، لضمان إقرار مسودة الدستور».
يمنح الدستور الجديد استقلالاً ذاتياً نسبياً للجيش، فالمادة 195 تنص بأن وزير الدفاع هو القائد العام للقوات المسلحة، و»يعين من بين ضباطها»، وبالتالي يُجنِّب القوات المسلحة الرقابة المدنية (البرلمانية). وكذلك تنص المادة 197 على إنشاء «مجلس الدفاع الوطني» لمناقشة موازنة القوات المسلحة، يغلب عليه العسكريون، وينكفئون فيه وبه على سياستهم ومصالحهم وموازنتهم، المحجوبة عن الشعب ونوابه ومراقبة إدارته وقضائه المالي.. والمعلوم أن للجيش مرافق اقتصادية واستثمارية تساهم بما يوازي عشرين في المائة من مجمل الناتج القومي.
-9-
العنصر الثالث: بحسب المرشد العام هو استغرابه الشديد بأن الأزمة السياسية - الدستورية جاءت في الوقت الذي انهالت فيه مكالمات التهنئة الدولية - وهو بالطبع يقصد الاتصالات الأميركية - انهالت على الرئيس لدوره في تحقيق وقف إطلاق النار في قطاع غزة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. يضمر المرشد العام في كلامه ما نقله لي مسؤول عربي عن عصام حداد مستشار الرئيس للشؤون الخارجية بأن اتصالاتهم بالإدارة الأميركية مستمرة وودية وعميقة مستهجناً تحرّك الشعب المصري وقياداته التي يفترض أنها تلتزم بالسياسة الأميركية في وجه قرارات الرئيس السياسية والدستورية.
الرواية الثانية التي تدل على استعمال السلطة في سبيل نصرة أهل العقيدة الحزبيين دون غيرهم هو ذهاب كبير الإخوان النافذ - خيرت الشاطر - إلى الأردن لدعم الإخوان المسلمين الأردنيين في وجه الدولة وحين فشل في مسعاه مع رئيس الحكومة لتعديل قانون الانتخابات قامت الدولة المصرية بتخفيض تزويد الأردن بالغاز المصري إلى ما نسبته 18 بالمائة.. من أصل الاتفاق المعقود بين البلدين، مما رتب على الخزينة الأردنية أعباء مالية إضافية بمليارات الدولارات في مجال الكهرباء.. في الوقت الذي حافظت فيه الدولة المصرية على تعهدها تجاه إسرائيل بتزويدها ما اتفق عليه من الغاز.
-10-
وهو ما عبَّر عنه عاهل الأردن في أحاديث صحافية ودفع الحكومة الأردنية إلى بدء إجراءات ترحيل أكثر من نصف مليون مصري يعملون في المملكة الأردنية.
الصورة الثالثة: فولكلورية نسبياً وهي دعوة وزير الدفاع إلى لقاء اجتماعي في أحد مقرّات القوات المسلحة يحضره رئيس الجمهورية وحكومته وزعماء المعارضة وإعلاميون.. وبعد ارتباك بين رفض الرئاسة لدعوة عنوانها الحوار السياسي وقبولها بعد تجميلها بعنوان التواصل الاجتماعي تُلغى الدعوة التي كشفت مدى الانقسام الحاد الذي حققه الحزب الحالم بأن يكون حزباً حاكماً بين شعب الحزب والشعب المصري، مما وضع الرئيس المنتخب أمام احتمال، ولو لم يتحقق بمناقشة المعارضة في مقر الجيش الذي أكد في بيانه وقوفه على مسافة واحدة من أطراف الأزمة.
بذلك يكون الرئيس قد فَقَدَ صفة الجامع الوطني للشعب المصري في زمن قياسي لا يتعدى الأشهر الثلاثة.
-11-
الصورة الرابعة: من الشاشات المصرية: تجمع النخبة العلمية والسياسية والدستورية على الخطيئة المرتكبة في الكتابة الفئوية للدستور وفي التفرّد السلطوي للإعلان الرئاسي الدستوري.
أما الأهم في الرابع من الصور فهو هذا الشعب المصري العظيم المسكون بالحرية، التي استحقها في ثورته الأولى والمنادي بها في كل المدن والشوارع تحقيقاً لثورته الثانية.
لقد كانت الإعادة.. «على الطريقة السينمائية» أفضل بكثير في ميدان التحرير.. بغض النظر عن نتائج الاستفتاء، فإن النتائج الأولى للمواجهة ظهور الفارق في أذهان العامة بين الإسلام والإسلام السياسي، والفارق بين الانتماء الديني والهوية السياسية الجامعة.. وبهذا قد يربح الإسلاميون الدستور مثلاً ولكنهم سيخسرون قدرتهم على التفاهم مع المجتمع، بل ويمكن التعويل على الأزمة إيجابياً بوصفها استئنافاً لمعركة عصر النهضة، معركة الإصلاح الديني المؤجل منذ ذلك الحين.
على المستوى المباشر قد تسفر المواجهة القائمة عن انتصار مفاجئ للتيار المدني الذي يضم مزيجاً من ناصريين وعلمانيين وليبراليين ويساريين ونخبة ثقافية وفنية وإعلامية وحقوقية واقتصادية وأقباطاً، وهو ما يعدنا بتطور هائل لمستقبل السياسة في كل العالم العربي، ويحقق بسرعة قياسية الآمال البعيدة لطموحات الثورات العربية.
-12-
السيناريو الآخر هو نجاح التحالف الإخواني والجيش وترتيب نظام حكم مديد يعيد إنتاج آليات التمييز والقمع ونظام الاستبداد، أي يعيد اغتراب الشعب عن السلطة والسياسة، على نحو ما اتصف به نظام مبارك، وينهزم التيار المدني ويتأجل التحول الديموقراطي إلى حين.. لكن هذا إن نجح، سيكون مؤقتاً، إذ لم يعد ممكناً أن يعود الاستبداد ديناً طبيعياً للسياسة في العالم العربي.. فهذه الثورات ليست انقلاباً واستيلاء على السلطة، إنها بداية مسار طويل من التحولات والعقبات والمعضلات التي تنتظر الحل.
أما الافتراض الأخير فهو ثبات انقسام المجتمع بحدة لا حسم فيه، قد يكون أسوأ من الانقسام اللبناني بين 8 و14 آذار أو نظيراً له، حيث ينتصب الافتراق الكبير بين شطرين أو مجموعتين شعبيتين مؤدلجتين ولدى كل منهما نظام قيم مضاد للآخر.
أنا أُرجِّح السيناريو الثالث الذي ستطحن فيه قدرة النظام الإخواني على تلبية حاجات الشعب المصرية المُلحّة وستُستنزف فيه حيوية المعارضة على القيام بحركة دائمة وفعّالة دون التسبّب بفوضى.
كلاهما لن ينجح.. لا الحكم الإخواني في الإنجاز ولا المعارضة بالاستمرار سلمياً دون الوقوع في فخ الفوضى الذي ستنصبه لها الأجهزة السلفية والإخوانية.
لكنني رغم ذلك كثير التفاؤل بأن الحيوية السياسية المصرية الداعمة للحرية - شعباً ونخباً - ستنتصر إنما بعد مخاضٍ عسير وطويل.
-13-
وإذا كان للبناني أن يقول عبارة في النزاع السياسي - الدستوري، المندلع اليوم في مصر، فهي عبارة: الميثاق الوطني.. الميثاق هو تعريفٌ يسبق الدستور وكتابته، بل ويُنسِبه إلى أصلٍ وإرادة.. فكل دستور إذ يصبو إلى إقامة نظام سياسي ديموقراطي وفق مبادىء المواطنة والمساواة بين المواطنين وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وصون الحريات الفردية.. والحريات العامة، يجب أن ينبثق أولاً من الإقرار بسيادة الشعب وولايته العامة، وبتبعية السلطات له، بل وصدور هذه السلطات عن الشعب.
وشعب الدستور هذا، الذي يُولد من الدستور ذاته اعتبارياً، منذ لحظة كتابته، هو وليد مداولات المتعاقدين بعقد اجتماعي، يُنشىء رابطة وطنية ليست موروثة تماماً، بل مصنوعة ميثاقياً من تعاقدهم بإرادتهم الحرة.
***
- هذه الكلمة كتبها النائب اللبناني نهاد المشنوق لندوة (ديموقراطية مصر بين الدور الإقليمي والتحديات الداخلية، وطلب نشرها بالجزيرة).