في عام 1977م وفي درس مقرر (التاريخ السياسي الأمريكي)، سألت الأستاذة في جامعة (نوترديم دنمور) الطلاب عمن يستطيع أن يصف الفرق بين الحزبين الجمهور والديموقراطي بعبارة واحدة، فلم يستطع (53) طالبا منهم (41) أمريكيا، هم طلاب المقرر التعبير عن ذلك، وعلتهم أن الاختلاف بينهم غير واضح، وفي نفس الجامعة تقرر تعليق الدراسة يوم في السنة، يخصص للتعريف بالأديان، حيث يدعى ممثلون للأديان الرئيسة في أمريكا ليلقوا محاضرات في يوم احتفالي يحفل بالجدال والنقاش وفهم الآخر المختلف، في اليوم الثاني بعد ذلك اليوم وفي درس مقرر (أخلاق الأعمال)، سأل الأستاذ قبل بدء المحاضرة عن الطلاب الذين استغلوا عطلة يوم الأديان وتمتعوا بها كإجازة خارج الجامعة، فرفع عدد يربو على 20 طالبا وطالبة أيديهم، فسجل أسماءهم، ثم قال «أنصحكم بالانصراف من هذا الدرس وما يليه فقد سقطتم في المقرر». ثم برر الأستاذ قراره المدهش بأن من أهم أخلاق الأعمال محاولة فهم الأخر والآخر في الغالب مختلف دينيا وفكريا.
مقدمتي هي مدخل للتعبير عن الفارق الكبير الذي جعل أمريكا أكثر أمة متقدمة في العالم، وجعلها مصدر المدنية والتقنية، وأكبر قوة مؤثرة في حياة الأمم الأخرى والتاريخ الحديث، وبين واقعنا في بلداننا العربية والإسلامية، نحن نزداد فرقة كل يوم ونزداد وهنا وجهلا وصراعا، والسبب أن معظمنا ببساطة لا يريد فهم الآخر المختلف وإن كان ابن جلدتنا, وخلافاتنا حول كل شيء بدءا بالدين وانتهاء بما يعرض في برامج التلفزيون، والاختلاف بحد ذاته طبيعة بشرية وهو مثير للفكر وموقد للهمم في سبيل تحسين واقع الحياة، ولكن عندما تغيب النية في فهم الآخر ويصبح التناحر والاصطياد والتأليب هو المسيطر على مشهد الخلافات، يكون الاختلاف وقودا للعداء والتشرذم والنفاق والكذب والتخندق والتربص، ولنا في واقع الحال مشاهد كثيرة، في مصر، وفي العراق، والبحرين، واليمن، وربما أن مستقبل سوريا لن يكون أفضل لذات السبب.
في بلادنا الوضع مستتب لأن الدولة متماسكة والسلطة حاضرة والشعب آمن، ولكن هناك من يريد أن يوقد نارا للفتنة ليس بالاختلاف والتعبير عنه، ولكن بالاستعداء للمختلف والتخويف والتهديد، فتنة التكفير والتفسيق من جانب وفتنة التجهيل والتحقير من جانب آخر، فتنة العداء حول خلافات بعضها جوهري ومعظمها سطحي معيشي، هذه الفتنة هي المقصودة في حديث « الفتنة نائمة لعن الله موقظها «، فالاختلاف هو حقيقة بشرية وسيستمر ما بقيت البسيطة معمورة بالبشر، ولكن الفتنة هي أن يوقد نارا للصراع حطبها الاختلاف، وموقدوا تلك النار هم واحد من اثنين، متأمر صاحب غرض يتكسب من الصراع بين الناس، أو صاحب فكر متكلس يعاني داء نفسيا به يعبر عن حقد لمن يختلف معه، وكلا الاثنين من حسن الحظ قليل بين الناس، ولكنهم أقلية صاخبة تصم الأذان وتزعج النفوس المطمئنة.
مقالي هذا هو دعوة للعقلاء وأصحاب الفكر النير، أن لا يتركوا الساحة لقارعي طبول العداء بين أطياف الشعب المختلفة، وأن يثروا المنابر والمسارح والإعلام بخطاب جديد يقوم على الدعوة لفهم الاختلافات الفكرية والمذهبية، لا نريد اتفاقا قسريا حول مشتركات محددة، نريد حرية في ممارسة التفكير والاختلاف والمناظرة وفهم الآخر بدون ضغوط الخوف من فقدان الصفة أو المصلحة أو المكانة الاجتماعية. نريد أن نرى في الأفق بلادا تحضن أهلها على اختلاف مللهم وتفكيرهم وتحمي حقوقهم في أن يكونوا ما يريدون، لا ما يراد لهم أن يكونوا.
mindsbeat@mail.comTwitter @mmabalkhail