لعلّ من نافلة القول الإشارة إلى المقال الذي كتبته في هذه الجريدة السيَّارة بتاريخ 29-3-1432هـ، بعنوان (القضاء والإعلام تحت المجهر)، على خلفية مؤتمر (ملتقى القضاء والإعلام)، الذي نظمته وزارة العدل في العام الماضي، وقلتُ فيه إن العلاقة بين القضاء والإعلام في بلادنا - خاصة في هذه الحقبة - علاقة تكاملية، هي أنموذج يجب في الواقع أن يحتذى في مجالات الحياة الأخرى، ولاسيما الضرورية منها. ومن أجل ذلك لزم أن تقوم العلاقة بين القضاء والإعلام على (عقد) غير مكتوب يُؤْمِنُ فيه الإعلام بضرورة عدم التعليق على أحكام القضاء، وأن يعتمد القضاء الشفافية في أحكامه، و(عقد) شراكة تكاملية مع وسائل الإعلام المختلفة، تقوم على عدم حجب المعلومة، الذي يُسبب التفسيرات المغلوطة وتحميل القضايا ما لا تحتمل. وأشرتُ فيه إلى أن (مشروع الملك عبدالله لتطوير مرفق القضاء) نقطة تحوّل تاريخية، وعلامة فارقة في مفاهيم التطوير القضائي، واعتبرته - شخصياً - دعماً (لوجستياً) من ولي الأمر للعدالة في المملكة، التي دائماً ما يُؤكد عليها - رعاه الله - في كلماته. وقلتُ في مقالي إن من حسن الطالع أن قطاعَيْ (القضاء والإعلام) لقيا اهتماماً ودعماً غير محدودَيْن من القيادة الرشيدة في بلادنا، والسابر لأغوارهما يلمسُ أن الوزراء الذين تولّوا قيادة هذين القطاعين بالذات في عصر الدولة السعودية الحديثة هم من خيرة الرجال الأكفاء - نحسبهم كذا - حتى آل أمر هذين القطاعين في هذه الحقْبة المباركة لشخصيتين متخصصتين متدرجتين في مجال القضاء والإعلام، أعني بهما (وزير العدل) و(وزير الثقافة والإعلام) الحاليَّيْن، اللذين يسعيان بخبرتهما ومشوارهما الطويل لتحقيق تطلعات القيادة الرشيدة، للنهوض بهاتين السلطتين المتكاملتين المهمتين، إدراكاً منهما بأهمية وجود الشراكة الفعلية بين مرفقي القضاء والإعلام. ويبدو أن قضية اختيار كبار المسؤولين لدينا، ولاسيما الوزراء على وجه الخصوص، وخاصة من على رأس هرمي القضاء والإعلام، تتم وفق آلية مرسومة ومدروسة موفّقة - هكذا أظن - لأن الواقع المشاهد يشي بشيء من العقلانية الواقعية؛ إذ قلّ ما نشعر بوزير يصادم باجتهاده الوجْهات والتوجّهات لسياسة الدولة العامة.
ليس من هدف هذا المقال الاستطراد والتوسع في الحديث عن مرفق القضاء ومرفق الإعلام؛ فقد أشرت لذلك في مقالي الآنف الذكر لما فيه الكفاية، ولكن هو للوقوف ولو بشكل سريع على جهود هذين الرجلين وما يتمتعان به من صفات خُلقية وهبها الله سبحانه لهما منّة وكرماً. قد تكون شهادتي في وزير الثقافة والإعلام (خاصة) مجروحة نوعاً ما لأسباب، وقد كتبت عنه، كما كتب غيري في سبيل تناول أدائه اللافت. وفي الجانب الآخر نجد وزير العدل هو الآخر يتمتع بشخصية (كاريزمية) حاضرة في المشهد القضائي وبقوة. الوزيران (القاسم المشترك) بينهما - من وجهة نظري - النشاط الحيوي الدؤوب والواسع في محافل قطاعيهما، وحضورهما الفاعل في المشاهد الثقافية والإعلامية والقضائية، وهما شخصيتان متقاربتان متوافقتان في الرؤى والتطلعات، تعاونهما مع وسائل الإعلام قوي ومؤثر جداً، ولهما القبول الكبير في الوسط الإعلامي. ويُعد هذان الوزيران من أوائل من أنشأ حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي على مستوى الوزراء، وإن كان وزير الثقافة والإعلام له قصب السبق في ذلك. ولعل هذا التطور في التواصل التقني بين المسؤول والمواطن يصبّ في مصلحة المواطن بالدرجة الأولى؛ فهو يسمح للمواطن بالوصول إلى المسؤول بأقصر الطرق، وبعيداً عن البيروقراطية الزائدة ورتوش المكاتب الإدارية الرسمية بالوزارات الحكومية، وفيه نوع من التعامل السهل البسيط والأريحية التامة في التواصل مع المسؤول. لو تجاوزت وزير الثقافة والإعلام؛ كوني قد تناولته من قبل كما قلت، ووقفت مع وزير العدل هنيهة، فإني أراه - ما شاء الله تبارك الله - قفز بشخصه وبمرفقه قفزات محسوبة موزونة. بشخصه عندما حظي بثقة ولي الأمر وتعيينه رئيساً أعلى للقضاء وعضواً بهيئة كبار العلماء، إضافة إلى عمله وزيراً للعدل، وكذلك تميزه العلمي؛ لكثرة مؤلفاته الفقهية، وتشعر بذلك من خلال حديثه عند متابعتك برنامجه المميز بإذاعة القرآن الكريم (الوسيط في التفسير)، الذي في الحقيقة أستمتع بمتابعته؛ كون الرجل (شمولياً) أثناء التعليق على الآية القرآنية من حيث سلاسة الأسلوب ووضوحه ولغته والمعاني ودلالاتها وأسباب النزول للآيات القرآنية؛ فتخرج بحقيقة ثابتة، لا تقبل الجدل بأن هذا الرجل موسوعة في مجال تخصصه. أما قفزاته في مجال مرفق القضاء فهذا أمر مشاهد، لا أخال الرجل إلا أنه يحاول بكل جدية مع إخوانه المسؤولين في هذا المرفق المهم للوصول إلى تطلعت ولاة الأمر، الذين يهمهم هذا الشأن. هذا الرجل - ما شاء الله - خطف الأضواء - رغم صغر سنه - ومعه وزير الثقافة والإعلام. أكثر ما يميز هذين الرجلين حضورهما اللافت والفعّال في مجال عملهما، وتعاونهما المطلق فيما يخدم هاتين السلطتين، وهو سرّ تميزهما ومدعاة قبولهما، رغم حساسية قطاعيهما ووقوعهما بين سندان الأخطاء المحتملة ومطرقة الإعلام الذي لا يرحم، ومع ذلك نجدهما يتقبلان النقد ولا نجد لهما تذمراً يُذكر. وقد أجادا فنّ التعامل، ونأيا بقطاعيهما إلى برّ الأمان، وسَلِما من القدح المباشر الحاضر في وسائل الإعلام المختلفة، ولاسيما مواقع التواصل الاجتماعي التي تندر السلامة منها. أدركا قيمة العمل الجاد وما يثمره من نتائج تطفو على السطح. ورغم الاختلاف بين القضاء والإعلام في طريقة عمل كل منهما, ورغم أن كلتا السلطتين لم تُخلق للعمل معاً, إلا أن هذين الوزيرين جسَّدا روح التناغم بينهما من خلال ممارساتهما بالفعل، عندما سلكا طريقَيْ (التوازن والشفافية) لحماية العدالة والحفاظ على الفكر، وصولاً إلى تحقيق وحدة (الغاية والهدف)، وهما أهم الأولويات العاجلة والضرورية لإصلاح منظومة (العدالة والإعلام)، التي تضمن سلامة الدولة والمجتمع. لم يبق إلا أن ندعو لكل من عمل بأمانة وإخلاص من المسؤولين في بلادنا الغالية بجلّ التوفيق والسداد؛ لتبحر سفينة مملكتنا الغالية بأمان الله.
ودمتم بخير.
- د. محمد أحمد الجوير