بالجلسة الأولى للقاء الثقافي الخامس الذي عقده مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، بعنوان الثوابت الوطنية للخطاب الثقافي السعودي، ولأن الدستور اُعتبر بمثابة المرجع لتحديد الثوابت، أشار الشيخ د. خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، إلى أن النظام الأساسي للحكم هو دستور المملكة..
فأوضح رئيس الجلسة د. راشد الراجح الشريف أن القرآن الكريم والسنة الشريفة هما دستور المملكة. وحصلت بعض المداخلات التي ترى هذا الرأي أو ذاك. وكانت مداخلتي أننا لو اختصرنا أغلب التعريفات لمصطلح “الدستور” لوجدنا أنها: النظام الأساسي للحكم في الدولة، ومن المنطقي اصطلاحياً أن يُعتبر النظام الأساسي للحكم هو دستور المملكة. وكان التعليق الأخير للدكتور محمد السعيدي بأن الدستور يعد الوثيقة العليا للدولة حسب تعريفات القانون الدولي، ومن ثمة فإن القرآن الكريم والسنة الشريفة هما دستورنا، لأنهما مرجعيتنا العليا. وتناقشنا سريعاً بعد الجلسة، وأوضح السعيدي اختلافه معي في التعريف المختصر الذي أشرت إليه، ومبيناً عدم صحته.
فقمت ليلتها بجمع أهم التعريفات في القواميس الإنجليزية، واختصرتها وقدمتها له من صباح الغد في الجلسة الرابعة، والتي أيضاً داخل فيها الدكتور محمد العمير الأكاديمي بجامعة الملك فيصل، موضحاً أن القرآن الكريم حمال أوجه كما قال الإمام علي بن أبي طالب، ففيه ما هو قطعي الدلالة وما هو ظني الدلالة، وإن كان كله قطعي الثبوت.
ولتلافي أن تفسر بعض الآيات الكريمة تفسيرات مختلفة لا يمكن رفضها، لأنها غير قطعية الدلالة، يصبح ضرورياً أن يكون الدستور موضوعاً في مواد مرتبة في أبواب وبنود محددة واضحة “قطعية الدلالة”، مثل النظام الأساسي للحكم الذي صدر عام 1412هـ في تسعة أبواب ضمت ثلاث وثمانين مادة، بحيث اشتمل الباب الأول على المبادئ العامة، والثاني على نظام الحكم، والثالث على مقومات المجتمع، وهكذا بقية الأبواب شملت مواضيع محددة. أما القرآن الكريم والسنة الشريفة فهما المرجعية العليا لكافة المسلمين في شؤون الحياة الدينية والدنيوية، ونصوصها غير قابلة للمس بينما مواد أي دستور هو عمل بشري قابل للتعديل.
ومن هنا طرح البعض في هذا اللقاء الثقافي مسألة تدوين الشريعة وضرورة أن يوضع التشريع في مواد محددة، ولا تكون العقوبات إلا بنص قانوني، ولا يكتفى بالقول بتطبيق الشريعة الإسلامية وتركها لاجتهادات القضاة التي قد تختلف قليلاً أو كثيراً. وهذا يتماشى مع النظام الأساسي للحكم الذي نصت مادته الثامنة والثلاثون بأن العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على نص شرعي، أو نص نظامي..”.
عوداً لتحديد ماذا يعني الدستور، أضع هنا مختصراً للتعريفات. أهم الموسوعات وأقدمها وهي الموسوعة البريطانية تعرف الدستور بأنه: الهيئة من المبادئ والممارسات التي تشكل المبدأ الأساسي لتنظيم الدولة سياسيا. أما موسوعة ويكيبيديا الإنجليزية، وهي حالياً أضخم موسوعة عالمية، فتعرف الدستور بأنه مجموعة من المبادئ الأساسية أو السوابق الراسخة التي تحكم دولة أو منظمة. ويعرف موقع القاموس (Dictionary.com) الدستور بأنه المبادئ الأساسية التي تحكم الدولة. وكذلك يعرفها القاموس الحر (Free Dictionary) بأنه منظومة القوانين والمبادئ الأساسية التي تنص على طبيعة ووظائف، وحدود حكومة أو مؤسسة. وتعرف الموسوعة السياسية (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) الدستور بأنه مجموع القواعد القانونية التي تحدد نظام الحكم وشكله في الدولة.
بن دوبري (Ben Dupré) الباحث في جامعة أكسفورد، يرى أن الدستور هو وثيقة صريحة نسبياً، مع هدف واضح وعملي تصف كيفية إقامة النظام السياسي ووظيفته: الإجراءات الواجب اتباعها في اتخاذ القرارات، وتوزيع السلطة بين مختلف أجهزة الدولة، وحدود السلطة التي تفرض على مسؤولي الحكومة، والوسائل المستخدمة لتحديد أو انتخاب مسؤولي الدولة.. وهلم جرا. السمة الطبيعية للدستور المكتوب هو الاعتقاد أنها مبادئ أساسية راسخة، مما يعطيها وضعا أعلى من القوانين العادية، ويمكن تعديلها فقط من خلال بعض الإجراءات الصعبة والمعقدة.
ومن الجدير ذكره ما يتردد كثيراً في المراجع السياسية أن هناك دولاً نادرة ليس لديها دستور مكتوب مثل بريطانيا والسعودية. وتعد الحالة البريطانية مثيرة للغرابة، وتستحق الإشارة والاهتمام، لأن بريطانيا تعد من أوائل الدول الوطنية التي تكونت على الطريقة الحديثة، وأكثرها إرثاً في القوانين السياسية وفلسفتها. إذ ينتقد البعض عدم وجود دستور مكتوب فيها. لكن دوبري يرى أن النظام البريطاني ليس غريباً مثلما يظن النقاد. فحجر الزاوية في النظام السياسي البريطاني هو مبدأ السيادة البرلمانية، مما يعني أن البرلمان يمكن أن يقرر ما يشاء باستثناء تقييد قرارات من يخلفه. لذا بات من المستحيل وضع وثيقة (دستور) راسخة بشكل رسمي، نظراً لأنه من الممكن دائماً تشكيل حكومة تصدر قرارات لتأتي حكومة لاحقة وتلغيها. هذا لا يعني عدم الاستقرار السياسي في بريطانيا، كما أثبتت التجارب التاريخية. فالواقع ليس أن الدستور في بريطانيا غير مكتوب، بل إنه غير مكتوب في وثيقة واحدة. فحسب تعريف بولينجبروك (Bolingbroke)، هو نظام تطور تدريجياً وبصورة بطيئة، من تجميع القوانين والمؤسسات والعادات المتراكمة على مدى مئات السنين.
ثمة اتفاق بأن وجود دستور مكتوب يحسم كثيراً من الخلافات حول شرعية الأنظمة والقوانين ويحد من التجاوزات والانحرافات السياسية، ولكن هذا لا يمنع من وجود خلافات بين الفرقاء في التفسيرات والتأويلات وقراءة ما بين سطور الدستور. لذا يتطلب الأمر وجود محكمة عليا للبت في الخلافات حول تفسير مواد الدستور. وهنا يرى البريطانيون أن القرارات النهائية في حالة الخلاف على الدستور غير المكتوب لديهم ينبغي أن تحال إلى السياسيين المنتخبين وليس إلى قانونيين غير منتخبين.
أما بالنسبة لدينا في السعودية، المسألة محسومة من الناحية النظامية، حيث ينص الجزء الأول من المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم بأن: “المملكة العربية السعودية، دولة إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”. لكن هذا لا يعني عدم مناقشة الموضوع لكي يأخذها في الاعتبار أصحاب القرار ومستشاروهم عند الرغبة في إجراء أية تعديلات. فالخلاصة المقتضبة من كل ما تقدم هو أن الدستور يمثل النظام الأساسي للحكم.
alhebib@yahoo.com