لم تكن صناعة السيارات (تجميعها) غريبة على السوق السعودية؛ فمن عجائب البدايات في ستينيات القرن الماضي؛ تخصص بعض السعوديين في تجميع سيارات النقل الأمريكية الصغيرة ومنها «الفورد»؛ وغيرها من الموديلات المشهورة آنذاك. كان موقع التجميع يتكون من مظلة ورافعة بدائية تمثل ورشة العمل الصغيرة التي تفتقد الحد الأدنى من الخدمات المساندة.
كانت «شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو)» سبباً في دخول سيارات الشحن بأنواعها؛ وكان بعضها يأتي مفككا ويتم تجميعه محليا؛ بأيدي سعوديين مهرة اكتسبوا صنعتهم من المهندسين الأمريكيين. كانت تجربة ثرية بكل المقاييس؛ تطورت مع مرور الوقت حتى أصبح لدينا مهندسون (بالممارسة) قادرون على صنع بعض قطع الغيار؛ وبعض أجزاء السيارة الخارجية في ورشهم البدائية؛ وفي «مخرطة أرامكو». لو لم تتوقف تلك التجربة لربما شاهدنا أنواعاً مختلفة من السيارات المنتجة محليا وليس المجمعة.
في تلك الحقبة كانت سيارات النقل الصغيرة هي المسيطرة على المجتمع؛ افتتن بها الجميع؛ وأثَّرت في ثقافتهم؛ وبخاصة الشعراء الذين خلَّدوا بعض أنواع الشاحنات الأمريكية المنقرضة؛ بأسمائها الشعبية لا الاسم الغربي؛ ومنها «الدمنتي» المُشتق من « Diamond T» والتي سطع اسمها في غزليات الشعر الشعبي:
(وطى مهجتي وطي الدمنتي على الرستات **** جديد التواير من كراجه يسوقونه)
ومنها أيضا (العنتر ناش International)؛ وفيه قال الشاعر:
(ياهل الهافات عنتر ناش جاكم **** واعنا من صادفه بأرضٍ خليـّه)
و(الهافات) جمع كلمة (Half) الإنجليزية، وتطلق على سيارة النقل الصغيرة. ومنها أيضا سيارة (ماك Mack) مُلهمة الشاعرة في قولها:
(حن قلبي حنة (الماك) مع طلعـة نفـود **** عشقوا لـه بالدبـل والحمولـه زايـده)
ومن أنواع السيارات الأخرى «الدوج» ولم تكن سمعته جيدة؛ وفيه قال الشاعر:
(الدوج دَجَّو هله بسبوع **** عجزو عن التتن يشرونه)
و(البارويجن Power Wagon)؛ والشفر؛ والجمس؛ وغيرها.
يبدو أن الزمن أعاد نفسه من جديد؛ وحركة تجميع السيارات الأولى في الستينيات الميلادية أطلت علينا بشكل حديث؛ ورؤية شاملة ودعم حكومي؛ واستثمارات بالمليارات؛ وإصرار على توطين صناعة السيارات في المملكة. خمسون سنة انقطعت فيها تجربة التجميع الأولى التي شكلت نواة صناعة السيارات في المملكة؛ وعادت بصورة مختلفة.
تدشين مصنع شركة «إيسوزو» الذي يعد المصنع الأول من نوعه على مستوى المنطقة؛ وتوقيع خطاب نوايا مشروع صناعة السيارات مع شركة «جاكوار لاندروفر» فتح الباب على مصراعيه أمام صناعة السيارات محليا؛ وإنشاء قطاع إنتاج متكامل يسهم في توطين الصناعة؛ ونشرها؛ وخلق الوظائف وتنويع مصادر الدخل. الدكتور توفيق الربيعة؛ وزير التجارة والصناعة؛ أكد أن وزارته «تخطط لإنشاء مدن صناعية خاصة بالسيارات، إضافة إلى إنشاء صناعات داعمة ومكملة لتنمية نشاطها في السعودية»؛ وهو ما تحتاجه المملكة. البدايات تستحق التضحيات؛ وحركة التجميع الحالية ستتحول إلى صناعة متكاملة قريبا؛ إذا ما أُحسنت إدارتها؛ وستسهم في نقل التقنية والتجارب ونشر ثقافة الصناعة، وعدواها الإيجابية، وتأسيس صناعات خفيفة ومنشآت صغيرة ومتوسطة تمد قطاع صناعة السيارات بإحتياجاتها مستقبلا.
عبارة «صنع في السعودية» يجب أن تكون القاعدة التي يبنى عليها تدريب الشباب السعودي وتمكينهم؛ وإنشاء صناعات قطع الغيار واحتياجات صناعة السيارات؛ وتأسيس الكليات التقنية المتطورة؛ فالصناعة هي الخيار الأمثل للمملكة ومن خلالها يمكن تنويع مصادر الدخل وخلق الوظائف وخفض الاستيراد؛ وزيادة الناتج الإجمالي. فشلت تجربة السعودية الأولى مع صناعة (تجميع السيارات) في الستينيات الميلادية؛ وبدأت تجربة العام 2012 التي أسأل الله أن يبارك فيها وفي القائمين عليها؛ وأن يجعلها فاتحة خير لحزمة من الصناعات المتطورة.
f.albuainain@hotmail.com