دائماً ما كنا نفتش في جيوب الحياة صدفة نعبر بها جسور الود بلقاء ينزع الجفاء من الصدور، اليوم فقط أثق بأن أصوات الخريف تقرع أبواب المدينة، تخرق شمس صيفها رؤوسنا، ننبش أيامنا فلا نجد ملامحهم أو حتى محطات نقف بها ثم نرمي أحزاننا، يخجلني كثيراً أننا بتنا نملأ ملء كفينا أوهاما تسبق تجاوزي عنهم ثم تبلل وجدي عليهم وتترك في داخلي قطع نسيان تجتمع من بعد تشتت، لأن صحراء القلوب إذ لم نسقها بشيء من صبر لن تتكفل الحياة بمزج الخطايا بطريقة التغاضي عنهم، دائماً ما كانت تخبرني أمي بأن العودة لنوافذ الخيبة سهلة جداً، ولكن فتح نوافذ الأمل من بعدها ستكون أجمل وإن صعب أمرها، إن الصبر أحجية !، إنها أحجية أبدية تصعب على الكثير، حتى وإن مزقت العُقد من أكتافنا وبقيت علاقتنا سطحية مع الآخرين لن تكن أمورنا وسيمة إلى حد ما، ستفر كل السبل لبقاء رفوف القلب مُمتلئة برحب لحبهم، كنت أضحك بقوة .. أضحك بسخرية على خيال أمي وقصصها كل ليلة عن البيت القديم آنذاك .. وعن بغداد، لم يكن حديث أمي عن بغداد حديثاً اعتياديا، كانت تروي شغفي عنها بسخاء، تصف نخيلها وعذب الفرات، إذا أمي كانت تتمنى زيارة بغداد ..!، ليتها تستقل سياسياً لكنت فاجأتها بزيارتها يوماً، أتعلمون .. أمي دوماً تذكرني أني أدفع ضريبة الرحيل عن رفقتي، ضريبة الثرثرة على الورق، ضريبة أشياء عدة، كنت أخبرها بمزاج سيئ : أنا يا أمي أكبر بشكل مؤقت، على الرغم من أني دفعت كل الوسائل المُمكنة لاستفز الحياة بنضجي مبكراً .
غداً لا يهم إذا كان أمسي مظلماً !، حديثي معها لم يكن مهذباً، كنت أؤمن أني كثيراً ما أبكي مع حديثي، وهي فقط تلقي علي ابتسامة تعلمني حينما أكبر وأصبح أماً سينبت في صدري أكثر من قلب !، أنا أشعر بذلك وفقط ..
ملامحنا حيث تكون مبهمة وتخفي حنيناً محشو بكمية هواء .. يوماً ما ستنفجر ويصعق الجميع من مآسينا المعطوبة على تركهم وحيدون من دون إلقاء تحية الصدف، أعلم أني أمضغ حديثاً عابراً معطوباً لأني لم أنجز حتى الآن حكاية تحدق في الحقيقة وتقدم من حائط موتها، لم يكن أحد يمتلك مواساتهم، ففي كل مرة تصبح لحظاتهم غير عادلة للانهزام ويظل المعزّون يرمون دعواتهم بشكل مستمر، وكانوا يخشون فراقهم من بعد بيتها الذي انطفأ، رحيلها لم ينتهِ بعد، كان كل ليلة يهز أبناءها ويلقي التحية على هشاشة قلوبهم، كنت أجزم منذ صغري أنها تتقن الغياب ولكنها تملك قدرة كافية للبقاء في أرواحهم - رحمها الله -، كم كانت تنجب رغيف خبز ساخنا وحليبا مكللا بالزنجبيل الحلو كل صباح في بيتها، فكيف تنسى كتاباتي ذاك الماضي الذي يمسح على خفقان قلبي ؟، دعوني أحكي عنهم الآن ..
أكره امتعاض المغلفين بالتجاهل، بالذين يتعاطون منا أياما وردية ويرمون بنا في الرماد للخلاص منّا للأبد، لأنهم وفي الحقيقة كانوا مجرد رغبات تبدأ بشعور النقص .. بالحاجة الملحة للبقاء قربهم، إنه شعور عتيق جداً مثل بيتهم المهدم المركون في أول القرية التي تبتعد عن مكاني هذا مائة وثمانين كيلومترا، كان البيت ذاك يحتاج مصوراً “ فوتوغرافيا “ محترفاً جداً ليحتفظ بقسوة اللحظة، ليس لرسائلي العفوية فقط !، أذكر آخر رسالة كنت أرسلها للمكان ذاته قبل سنتين، كنت أرسل بشرودي رسائل مُمتلئة بأخطاء إملائية ونحوية، أخطاء عاطفية أيضاً، ولكن نسياني للمنطقة الترابية تلك لم يكن منالاً سهلاً، كنت أجد في أخطائي وهروبي إليه رغيف مغطى بالتقديس .. بالامتنان العظيم، وكنت جاهدة لمحاولة القبض على كل العواطف التي دخلت في أرواحهم وخالطت الدماء في أجسادهم، كانت أيامهم القديمة رقيقة جداً، وكنت لا أعلم ما الذي كان يستدعيه أملي غير بقائهم للأبد، دائماً ما كنت أقول لأبي عباراتي الشهيرة كل جمعة وتحديداً كل ظهر سعيد “Forever my father”، تعلمت كل ظهيرة المشي بأقدام حافية أحمل في يدي كيس تمر أصفه بشكل عشوائي في صحن مستدير، أغلفه قرب القهوة والعديد من أكواب الشاي، أنا كنت قرب أمي أدّعي تنسيق وليمة بسيطة وهي تماماً تدرك أن (أدّعي) وأني مشتتة البال بكتابة قصة قصيرة ستذيل باسمي، وهم يدركون أنهم أخوة زاحمتهم مشاغل الحياة، وبقي درب قهوة الظهيرة ليوم الجمعة مسلك كل أسبوع في مجلس أحدهم، الحياة بحد ذاتها أحجية، حين رأيت صورة رفقتي القاطنون في الغياب .. أدركت أن الحياة تستطيع أن تهبنا بعض السعادة على الرغم من بُعد الأشخاص القريبين من قلبي، وحين عدت من الجامعة برأس مشحون بتراكم أعمالها، استطعت أن أبصق الحياة بغيبوبة قصيرة تنسيني هم العتب، فهل جربنا أن نسأل الحياة عن كل لقاء تحتاجه أرواحنا قبل أن نذكر كل شرود يسرق فكرة التأمل بملامح من نحبهم، ونعتز بمعرفتهم لنغسل كل وجع أهدته لنا الحياة وتفتح إشراقاتنا على أعياد تلصق أجسادنا بالسعادة ؟.