الحضارة عملية تراكمية معقّدة، وفيها من الشمولية والتكامل ما يجعل جميع القطاعات التنموية والمقتنيات التراثية والعلائق الاجتماعية بين أفراد المجتمع داخلة في صياغتها وبناء لبناتها، والإنسان والزمان والمكان والأنظمة ذات المرجعية التشريعية التي اكتسبت صفة الإلزام، والسلطات الثلاث المعروفة “التشريعية والتنفيذية والقضائية” لها الدور الراسخ والقدح المعلّى في تحديد ورسم ملامحنا الحضارية اليوم، ومتى وجد خلل في النّسق القيمي أو في علاقة أيٍّ من هذه المكوّنات الخمس تحقق وجود الفساد في نسيجنا الحضاري، والنتيجة الحتمية لهذا اللون من الفساد التخلُّف، والانهزامية النفسية، والتبعية النظامية، واستمراء الهوان والضعف والعجز، والاتكالية الشعبية على القادة وصنّاع القرار، وغير ذلك كثير من الأمراض والأدواء القاتلة التي تجعل الجسد الأممي أقرب للموت منه للحياة.
إننا حين نتكلم عن الفساد ونبحث عن رقم عالمي جديد في سلّم الشفافية العالمي، يجب ألاّ يقتصر القول على الظواهر دون الغوص في البناء التكويني لإنسان الوطن، كما أنّ من الضروري العدل في التشخيص وتحديد الداء بكل مصداقية وشفافية ووضوح، ليس هذا فحسب بل لابد من اتباع كشف هوية الإفساد وإعلان قائمة المفسدين إنزال العقوبة بهم، إذ إنّ في ذلك حياة الأُمّة ورقي الوطن، ولسنا أعلم من الله ولا أرحم وأحكم منه عزّ وجلّ وهو القائل سبحانه وتعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ... }.
• إنّ التنازل عن الهوية وعدم الاكتراث بمكوّناته وركائزها الأساسية التي هي بصمتنا الخاصة في عالم اليوم فساد حضاري خطير، لما يفضي إليه هذا النهج الانهزامي من تشويش الرؤية، وضياع الرسالة، وغياب الأهداف، واختلاط الأوراق، وخلل الموازين، وكل هذا يؤدي على المدى الطويل إلى تحوُّل الأصيل من السّمت الحضاري إلى مسخ غريب الوجه واليد واللسان.
• وإهمال اللغة العربية التي هي لغتنا الأم وعدم إعطائها حقها تعليماً وتربية ودراسة وتطويراً، والبحث عن بديل عنها تحت ستار الحاجة ومتطلّبات النمو والنهوض والتطوُّر فساد حضاري، لا من حيث الموقف المضاد أو المجابهة لتعلُّم اللغات الأجنبية والاستفادة منها في نقل علوم الحياة المختلفة، وإنما من حيث استدعائها في مواقف تفاعلية تحتاج إلى رصانة فكرية، وقوة في الطرح، وسلامة في التوجُّه، ووضوح في المنهج، وشعور بالعزّة والقدرة على مواكبة متطلّبات هذا العصر اللغوية والبلاغية والنقدية، والتميُّز، والوقوف على قدم المساواة مع الغير حين الحوار وعند اللقاء.
• وسنّ القوانين في الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة التي لا تتوافق مع دستورنا الشرعي فساد حضاري، لا من حيث الجمود أو الوقوف خارج الزمن والسياق العالمي وأنساقه المختلفة أو العجز في تفاعل المجتمع مع ذاته أو غيره، ولكن من حيث الانتصار لرؤى وحسابات المكسب والخسارة المادية البحتة، وإن نالت من عراقة الأصول وكنه البنية الديموجرافية وتماسكها ورقيها.
• وضياع صفحات التاريخ أو تزويرها أو إهمالها وعدم الاكتراث بها قراءة وتأمُّلاً وتفكراً فساد، لما يترتّب على ذلك من ضياع الفائدة المرجوّة من مختبرات الإنسانية ومعمل البشرية الذي سجل التجارب وحفظ النماذج والدروس والعبر ونتائج التفاعلات على محك سنن الله التاريخية والكونية.
• وإسناد الأمر إلى غير أهله فساد حضاري وتضييع للأمانة وسبب للثورات وهو الوقود الجاهز لسيل التغريدات والكتابات.
• وبعث بقايا الجاهلية التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت قدميه في يوم عرفة فساد.
إنّ الفساد الحضاري خطير جداً، ومن مواضيع الساعة التي يجب مناقشتها بكل شفافية ومصداقية ووضوح، ومع ذلك ما زال التفكير فيه ومطارحته والحوار حوله غائب عن أنظار واهتمام صنّاع القرار إلاّ ما ندر!!، ولذا كان لابد من لفت النظر له وإثارته في نادي المثقفين وعند المتبصّرين في مستقبل أوطانهم وقادم أيام أُمتهم، ولنا في الصين واليابان وفرنسا مثال حي في الحرص على النزاهة وحماية بلادهم من الفساد الحضاري، بل نحن أحق منهم بذلك إذ إنّ لحضارتنا شرعية عالمية ورؤية مستقبلية وصلاحية زمانية ومكانية..
فهل نعي اليوم من نحن ، ونتذكر ما نملك، ونعرف كيف لنا أن نعالج واقعنا من أجل مستقبل حضاري مرتقب!؟ أتمنى ذلك، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.