اختار الله لبني آدم أن يكونوا مختلفين، رضيه لهم وأقرهم على ذلك، اختلاف تنوع وتكامل، لا اختلاف تضاد وتعارض، رضي لهم هذا الاختلاف الذي أثرى معارفهم، ونوَّع أنماط حياتهم، وعدَّد أوجه الخيارات أمامهم، وحفَّزهم على التنافس والإبداع، وبهذا الاختلاف اكتسبت الحياة البشرية حيوية في العلاقات بين الأفراد والمجتمعات، وفي سُبل تعامل البشر وتواصلهم مع بعضهم الآخر، ونتج من هذا الاختلاف تجدد في الفكر والأفكار، وتفاوت في الفَهم والمفاهيم، ودفع لأسباب الاستحواذ والهيمنة، والتسلُّط والفساد، والإقصاء والاستبعاد، وهذا من فضل الله ورحمته بعباده، قال تعالى {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (251) سورة البقرة.
وعلى الرغم من الفضاء الواسع المسموح به في الأنماط والصور والمجالات التي يمكن الاختلاف فيها إلا أن هناك أُطراً عامة لا يمكن تجاوزها والقفز عليها أو تجاهلها، هذه الأُطر تُعَدّ بمنزلة الخطوط الحمراء التي لا يُسمح بتجاوزها في حال الاختلاف، ولو تجاوزها الإنسان أو تجاهلها لوجد نفسه في محيط قلق مضطرب، تطغى فيه التجاذبات والخلافات، والتشويه والشحناء، والكراهية والبغضاء والتدابر، وهذا سيفضي إلى فساد الحياة وتضييق المحيط الاجتماعي الذي يتحرك فيه الإنسان، كما يفسد هذا التجاوز العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والمجتمعات، وإلى المكائد والعداوات وتعطيل المصالح.
وواقع الحال يشهد على أن الاختلاف المحمود المطلوب تحوَّل في كثير من الأحيان إلى خلافات مذمومة مرفوضة، وهناك الكثير من الأمثلة والشواهد التي تدل على هذا وتؤكده. انظر إلى الواقع المزري لحال الأمة العربية والإسلامية؛ لتجد العجب العجاب مما يسوء ويكدر الخاطر، ويجعل الحليم حيراناً في إمكان تقبل واقع الإقصاء الذي تمارسه قلة لا تمتلك أي مقوم ضد الأكثرية تحت عناوين واهية، أو تمارسه الأكثرية ضد أقلية تحت مسوغات غير مقبولة، صور في منتهى الغرابة من التشتت والتدابر، والتباغض والتناحر، والتشكيك في الولاءات والانتماءات، تبدأ من الأفكار والفكر المتعارض ظاهراً ومضموناً نظراً لتعدد مصادر تكوينه، وتنتهي إلى الأفكار والفكر المتوافق ظاهراً ومضموناً كونه يتغذى من معين واحد؛ فالعلماني يرى الإسلامي أصولياً متطرفاً، ضيِّق الأفق معرفة وعلماً وسلوكاً، والإسلامي يرى العلماني كافراً فاسقاً، واسع الأفق متحرر المعرفة والعلم والسلوك، وعلى المستوى الإسلامي يُعِدُّ السني الشيعي رافضياً، ويُعِدّ الشيعي السني ناصبياً، وفي الإطار السني هناك الإخواني والسلفي والجامي والسروري والصوفي، والقائمة تطول وتطول من التصنيفات وصور التشتت، وكل منها يشكك في الآخر وينفر منه، بل يقصيه ويستبعده، والحال نفسها في الإطار الشيعي، هناك الزيدية والإثنا عشرية والإسماعيلية والعلوية، وأسماء أخرى اندثر جلها، حالها كما حال السنة، تشتُّت وتناحر وتباغض، إقصاء واستبعاد.
إن ما يتسم به الواقع الحالي - أخص العالم العربي - من صور التشتت ودعوات الإقصاء والازدراء بسبب الاختلاف في المواقف، والفهم والتفسير والتحليل، يوجب على المفكرين وقادة الرأي وصناعه التدخل العاجل لمواجهة دعاة الإقصاء، وحماية الأفراد والمجتمعات من شرور التشظي، ومضايق الانكفاء والانغلاق على الذات، ومحاربة الآخر لمجرد الاختلاف معه في تفسير موقف أو تحليل حدث.
إن التغلب على ثقافة الإقصاء البغيضة يكمن في الالتزام بالثوابت الإيمانية والشرعية، والأُطر الثقافية واحترامها، وتحكيمها في البت في أوجه الاختلاف، قبولاً أو رفضاً، مناقشة وتحليلاً، وبتهيئة العقول وتدريبها على تقبُّل الآخر والنقد الموضوعي، والرضا بالرأي الآخر طالما أنه يلتزم ويسير وفق القواعد والمعايير المُرضية من قِبل الأفراد والمجتمعات.