والمكان ممتلئ بأناشيد الفرحة التي غمرت قلوبنا. وتلك الموسيقى المنبعثة من ألسنة النسوة اللائي يتحلقن حولها وهي مُطرقة برأسها؛ حياءً من الأعين المبتهجة بوجهها القمري؛ وخوفاً من إثارة شجن قد ينبعث عندما تلتقي عيناها بعينيَّ.هذه الليلة التي تطير فيها روحي فرحاً بابنتي التي حمدت الله أن بلَّغني ساعة فرحها، وهي ليلة تحمل المشاعرُ فيها جسدي بتابوت يقودني إلى زاوية للبكاء.
في هذا المكان الصادح بكل أهازيج الحب، والمضمخ بطلاء يبعث في المكان رائحة زكية كرائحة ابنتي.حينما أجرجر جسدي المثقل بهموم دارت رحاها منذ إعلان خطبتها، وحتى اللحظة التي أرمي به على أريكة كانت تجلس عليها كثيراً مطالعة للتلفاز أو محادثة في جوالها أو قارئة لكتاب. الليلةُ الأولى التي أدخل فيها إلى المنزل وأحد أعمدته قد خرج مزداناً بحُليِّه ومرصعاً بجمال روحه.
أدخل إلى منزلي، وقلبي يخرج منه إلى حيث تكون.أنظر إلى أشيائها المبعثرة التي تركتها قبل ساعات، وأستمع إلى همسها الذي صار طيفاً من خيال وهي تتمتم بخوف قائلة: رجوتُكِ دعوة صادقة من قلب يلبس رداء الأمومة بأن يكون للتوفيق خانة كبيرة في قلبينا. الجميع يخلدُ إلى نومٍ عميقٍ محفوف بالتعب، وأنا الوحدة التي تبرق في عقلي سحابة الذكريات التي لم تنقشع إلا مع انقشاع الليل الذي بدد سكونه أذان الفجر المحمل بنغمة الحزن التي كتبتها في وجداني.. الذكريات! وما أدراك ما تلك الذكريات..! إنها لوحة من قصة حياةٍ ممزوجةٍ بنكهة من فلسفة ارتسمت في ذاكرة وجلة. كانت فلذة كبدي وأول صرخة تدوي براءتها في أجوائنا.منذ أن جاءت ورحيلها يرسم خوفي ووجلي، أشعر أنَّ طعماً غريباً في روحي حين أراها تدير كؤوس الضحك في قلوبنا ووجوهنا بحركاتها الطفولية، ولثغتِها التي تبني بها مملكة من هناء ومرح. وكلما كبرت الصغيرة في أعين الناس تبقى صغيرة أمام ناظريَّ؛ وما الولدُ الكبيرُ إلا صغيرٌ حتى تموت أمُّه، فإذا ماتت شاخ فجأة.! وهي بزفافها ظلَّت صغيرة وأنا وحدي الذي شخت فجأة.!وكلما خرجتْ أجيالٌ إلى بيوت جديدة، شاخت البيوت التي خرجوا منها إلى غيرها، وأصبحت مزاراً لذكريات حفيدٍ يذكِّر أولاده بأنَّ له لمسة من طفولة ظلَّت بصماتها قائمة في مكتبة ذكرياته. وعندما تَعذُب الذكرى ولو كانت عذاباً فلا أقلَّ من كتابة وصيَّة إلى قلبها بماء عينيَّ، وهي في عش زوجها الأمن.
إنَّك - يا ابنتي- دليل بيتك الذي تنعكس تربيته على مظاهر سلوكك، وتجلِّيات كلماتك، فكوني لزوجك قِبلة في جميل أخلاقك، ووجهة في عذوبة كلامك، فهو الذي سيبحث عن أُمك في كل موقف تتجلى فيه أخلاقُك، وأي بر هذا الذي تصنعين، حين تبدين زينة في سلوكك، وتقولين هذا من فضل ربي ثم من تربية كريمة تقلَّبت فيها. والبيت تدل عليه بناته كما يقول العقاد. فحذار أن يكون انعكاس بيتك الأول عطباً أو هشيماً تذروه رياح الكره والنَّكد. ولا يعفيك أن تكوني سيدة بأخلاقك حين تري من زوجك خبثاً من نفسه وسوءاً في أخلاقه. فالمولى الكريم قد امتدح رسوله المبجل بقوله:» وإنّك لعلى خلق عظيم» ونبينا المصطفى قد بشرنا بأن» أقربكم مني منزلا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا في الدنيا»، وقد يدرك حَسن الأخلاق منزلة الصائم والقائم.. أيتها الغالية: إن كان زوجك ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة، ولا تكوني ممن إذا انفض مجلسها مع قرينات زيَّن لهن الشيطان أعمالهن من تقويض البيوت وهدم الأسر، فتأتي لزوجها مقارنة حالها مع فلانة وصديقتها، ومع علاّنة وجارتها، والبسيى «القناعة» في حياتك كلِّها ؛لأنك ستشعرين حينها كيف تحاز لك الدنيا بحذافيرها. وأيم الله! إنه إن كان لك وِردٌ من الدعاء فسترين أثره بعد حين، فكلما مررت باختلاف رأي مع زوجك فحذار أن تكون أسرارك مبثوثة في شريط فضائي تجيب عن أسئلته فضيلة النساء القاعدات الفارغات المهووسات بالحديث الذي إثمه أكبر من نفعه، ولكن قولي»إنما أشكو بثي وحزني إلى الله» ولا تثريب أن يكون المأوى بعد ذلك إلى ركن متين حيث تكون الاستشارة الصالحة الصادقة. ورددي{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ }. وإن قلتم ذات يوم «يا بشراي هذا غلام» فاعلموا أنكم إنما تبنون لحياتكم ذكراً ثانياً حينما تجعلون منه مقيماً للصلاة، فاعلاً للخيرات، تاركاً للمنكرات.
ابنتي الغالية: التربية كالبناء العالي، لا يمكن أن يستوي على سوقه في يوم أو يومين، وإن أردنا أن يكون صالحاً لأزمنة مديدة فلا يمكن أن نجعل أدواته هشة تسقط مع الاختبار الأول، وما فشل قوم في التربية إلا لأنهم استعجلوا النتائج أو بنوا تربيتهم على غير هدى فخر عليهم السقف من فوقهم حين كانوا يرجون من أولادهم طاعة وسمعا. ابنتي الكريمة: إن زواجكِ سنة من سنن الله؛ لإعمار الكون، فلا تكوني وزوجك وذريتكم من بعدكم سبباً في هدم الخير.. أشرعوا نوافذ التقوى في بيوتكم؛ كي تضيء أشعة الطمأنينة وأنوار الفلاح.. تقربوا لله بحبكم لبعض.. تقربوا لله بتربية أولادكم.. أستودعكم الله..!