بقدر ما سعدت بـ(كلمة) الصديق العزيز الدكتور عبدالواحد الحميد.. الترحيبية بـ(اعتزام) مدينة (عنيزة) الاحتفاء بابنها الدكتور ناصر السلوم.. في عموده نصف الأسبوعي الموضوعي الرشيق (علي وجه التحديد)، والتي جعلتني أتابع - فيما بعد - وقائع فقرات تلك الليلة التي عاشتها (عنيزة)،
والتي جرى فيها الاحتفاء بالدكتور ناصر.. بـ(قاعة الشيخ عبدالله النعيم) بمركز الجمعية الصالحية، وكما نشرتها بتوسع محمود.. على صفحتين متقابلتين كاملتين (صحيفة الجزيرة) في عددها الصادر يوم الاثنين 27-12-1433هـ/ 12-11-2012م -.. بقدر ما دهشت لوقوف القائمين على ذلك الاحتفاء أو تلك الاحتفالية عند أسماء خطباء منطقة القصيم وحدهم.. أو مدينة عنيزة وحدها.. دون سواهم من خارج القصيم أو مدينة (عنيزة)، وهو ما يحسب عليهم.. وليس لهم.
فبعد كلمة راعي الحفل الأمير فيصل بن بندر -أمير منطقة القصيم- الموضوعية التذكرية الحافلة، والتي لم يفتها شيء من تذكر أيامه الأولى في إمارة القصيم، عندما جاءه الدكتور ناصر السلوم.. (وزير المواصلات) وليس وزير الإعلام آنذاك، وفي معيته وفد من المثقفين والكتاب والإعلاميين للاطلاع على مشاريع وزارة المواصلات.. بعد أن دعاهم -الدكتور ناصر- لتلك الزيارة بأسلوبه الحميمي الدافئ، والذي لا يرد.. حتى امتلأت بهم أو كادت.. حافلة (النقل الجماعي) التي خُصصت لتنقلاتهم مجتمعين بين مدن القصيم وقراه، وقد كان لي شرف مشاركة تلك الكوكبة الجميلة من الزملاء بعد أن أغراني - على المستوى الشخصي - بـ(ليل الصحراء) ولذعة بردها وخيامها ولهب مواقدها وهي تصنع قهوتها الفواحة الطازجة، فلبيت الدعوة مع مَن لبوا من الزملاء والأصدقاء، فلم أنس تلك الزيارة.. ولم أنس (قطبها) وشعلتها الدكتور ناصر السلوم.. ونجمة نجوم مدنها (عنيزة) التي كنت أعرفها منذ سنوات دراستي النظامية فـ(الجامعية).. من خلال تزاملي مع أبناء أسرتين كريمتين من أسرها.. هما: (البسام) و(الذكير)، والتي ألهب خيالي بها -فيما بعد- وصف الأديب اللبناني المهجري الكبير (أمين الريحاني).. عندما قال عنها: (مليكة القصيم. عنيزة حصن الحرية ومحط رحال أبناء الأمصار. عنيزة قطب الذوق والأدب.. باريس نجد).. فلم أجدها على غير ذلك بعد أن تعاقبت زياراتي لها.. لأربع أو خمس مرات.. بحثاً عن بدايات تاريخ رجل كبير من رجالاتها لـ(كتابته).
لقد تعاقب بعد كلمة سموه.. خمسة متحدثين من منطقة القصيم أو مدينة (عنيزة) نفسها، ممن عرفوا الدكتور ناصر السلوم.. وزاملوه وخبروه، وكانت لمعظمهم.. إن لم يكن لجميعهم تجارب مشتركة معه.. في خدمة الوطن على اتساعه، وقد أجادوا جميعاً.. وتكاملوا في تقديم (الصورة) الشاملة والمنصفة للدكتور ناصر السلوم.. بحماسها ودأبها، بخبرتها وديناميكيتها، بتواضعها وإنسانيتها، بإخلاصها ووطنيتها التي لم تكن لتفرق بين منطقة وأخرى.. في مشاريع (الوزارة)!! وإن داعبه أحد زملاء تلك الرحلة بـ(كثرة) الجسور والكباري في منطقة القصيم.. على قلة الازدحام فيها بالسيارات والمارة آنذاك..!!
على أي حال كان هذا الحضور القصيمي الكبير بين المتحدثين لافتاً.. وإن كان واجباً، إلا أنه ما كان سينتقص من هذا (الواجب).. بل سيضيف إليه لو أن اللجنة المكلفة بتوجيه الدعوات قد وجهت دعوتها لمتحدث أو أكثر - من خارج القصيم - ممن عاصروا الدكتور السلوم وعرفوه وأحبوه وفرحوا لفرحه، وحزنوا لحزنه.. وما أكثرهم، وهو ما يجعلني أجزم - على غير عادتي - بأنهم كانوا يتمنون لو أنهم شاركوا في حفل تكريمه هذا.. الذي تقيمه له مدينته (عنيزة).
* * *
يقول أحد الحكماء: (أنت ابن مدينتك.. في داخل الوطن، وأنت ابن الوطن.. في خارجها)..!! وبهذا القياس.. فإن الدكتور السلوم وهو ابن (عنيزة) في داخل القصيم.. هو ابن الوطن في خارجها، ولأصدقائه ومحبيه وعارفي مكانته وقدره.. وهم بالمئات وليسوا بالعشرات في مختلف مناطق المملكة ومدنها.. حق المشاركة في تكريمه حضوراً وكلمة وكتابة.. كما أفعل الآن بـ(مقالي) هذا، فمازلت أذكر بعض أحاديث (الأمس).. التي كنت أسمعها من معالي الشيخ محمد عمر توفيق وزير المواصلات آنذاك عن ناصر السلوم.. (دينمو) الوزارة، وقلبها النابض، وحيويتها المتدفقة.. وسط فيض من دعواته وتمنياته له بالتوفيق، أو تلك التي كنت أسمعها من معالي الكابتن أحمد مطر أقدر مديري (السعودية).. عن الدكتور ناصر السلوم وطبيعته الإنجازية الهائلة التي تتحدى الصعاب، وهو يتمنى لو كان هناك عشرة أو عشرون من نوع الدكتور ناصر السلوم، أو تلك التي كنت وما أزال أسمعها.. كلما جمعتني فرص اللقاء بمعالي الدكتور محمد سعيد فارسي -أعظم أمناء مدينة جدة- سواء في الإسكندرية أوفي لندن.. عن الدكتور ناصر السلوم وأيامه ودعمه اللا محدود لجسور وكباري بل ولشوارع مدينة جدة التي لا تقع في اختصاص (الوزارة) بقدر ما تقع في اختصاص (الأمانة)، وإلى الحد الذي كان يحمله على ركوب الطائرة إلى جواره إلى الرياض.. لا لأن لديه أعمالاً في الرياض.. ولكن ليكسب مزيداً من الوقت مع الدكتور ناصر المزدحمة أجندته بالمواعيد والارتباطات.. حتى ينهي البحث الذي بدأه معه عن إنجاز جسر من الجسور أو طريق من طرق داخل المدينة.. وهو ينفث حسراته على ذلك الزمن الجميل الذي جمعه بالدكتور ناصر السلوم.. ثم ولى، و.. وما أكثر الأحاديث التي سمعتها وتقاسمتها عن الدكتور ناصر السلوم: ثناءً وتقديراً واعتزازاً بـ(نموذجه) المتميز.. بين رجالات الوطن.
* * *
لقد كان يسعد (عنيزة) حتماً.. التي عرفتها وعرفت تاريخها الطموح من (الريحاني) و(داوتي) و(فيلبي) بداية.. لو أن دائرة المتحدثين عن الدكتور ناصر.. بل وحاضري حفل تكريمه.. اتسعت لتشمل عشرات الآخرين.. ولا أقول المئات، مخافة أن تضيق بهم قاعة (الشيخ عبدالله النعيم) الرحبة بمبنى (الصالحية) التي أعرفها.. والتي كان لي شرف الحضور إليها في ليالي أول مهرجان للثقافة والتراث تحييه (عنيزة) فيها قبل خمس سنوات، أيام.. محافظها السابق المهندس الفنان (مساعد السليم).. لأتحدث عن فقيد عنيزة ومثقفها الأول: المربي الشيخ عبدالرحمن البطحي.. الذي استبقي في إدارة مدرستها السعودية أربعة وثلاثين عاماً، بينما كان يحرص على استبدال (سريج التنك) في رؤوس طلبته.. بـ(شموع) العلم والمعرفة والتنوير، فإذا عادوا إليه وإلى زيارته في (مطلته) الشهيرة لـ(محاورته) ومناقشته والاتفاق والاختلاف معه.. وقد أصبحوا شباباً ورجالاً وتسنم بعضهم (الوزارة).. كان أكثر فرحاً بهم من آبائهم، ليقول قوله الجميل والكبير: (ما ألذ وأحلى أن يتناول المرء غداءً.. له بعض المساهمة في إنتاجه وإنضاجه)..؟!
لقد أسميته في تلك المحاضرة.. بـ(سقراط عنيزة)، فقد كان مثله.. يتكلم ولا يكتب.. يشرح ولا يدون.. حتى مات عن ملحمته الشعرية الوحيدة (هذي.. عنيزة)، وإذا كان سقراط مشاءً.. يتنقل من مكان لآخر ليحاور الناس الذين يتجمعون حوله أو يباغتهم في مجالسهم ومنتدياتهم، فقد كان (البطحي) مستقراً بعد عودته من سنوات هروبه وتجواله بين بيروت والقاهرة.. في بيته ومطلته على صحراء النفوذ، يستقبل كل من يأتيه من خارج (عنيزة) ومن داخلها، فإذا غادره بعد ثلاث أو أربع ساعات.. عاد وكأنه فاز بـ(رأس كليب)، وهو ما حدث لي عندما جرنا الحديث.. من موضوع لموضوع، لتأخذنا في النهاية إلى الحديث عن الكاتب والمفكر الكبير (عبدالله القصيمي) ودوره.. ليختصر نفسه في تلك (الكبسولة) الثقافية الرائعة.. عندما قال (يرى فيه بعض قرائه أنه يُلغي ولا يثبت، وأنه يعكر الماء ولا يؤمن البديل)..!!
فـ(عنيزة).. (تاريخ) طويل متوثب، و(طموحٌ).. صنعته جغرافيا المكان، وعززته وحملته عقول وقلوب أبنائها، و(ريادةٌ) أسرية بشرية جوَّابة.. لا تخشى الترحال، ولا تهاب غوائله.. من عنيزة إلى بومباي وفارس والعراق والشام والحجاز ومصر، لتكون في النهاية تلك (الوردة الحمراء)، التي أنبتها وسقاها (الندى) في قلب صحراء النفوذ، فتصنع راحتها بعد التعب.. وهي تمثل عن جدارة بمعارفها وخبراتها التي جمعتها واجهة الانفتاح الحضاري والثقافي في قلب شمال وشرق الجزيرة العربية.. فهي لا تضيق بكل جديد، وتمديدها لكل غريب وكما فعلت -في أزمانها الغابرة- مع الأديب الإنجليزي الرحالة (شارلز داوتي)، ليقول عنها الرحالة الإنجليزي الآخر (فورستر سادلر) بعد أن مر بها قبل قرابة مائتي عام: (عنيزة قصبة الجزيرة العربية جغرافياً وسياسياً وتجارياً).. لذلك كله.. كان الأليق بـ(عنيزة) أن تفتح صدرها ليشاركها، الآخرون تلك الليلة البهية.. ليلة احتفائها بابنها الدكتور ناصر السلوم التي شدني فيها.. من خلال متابعتي لتغطية صحيفة (الجزيرة) لها نصوصاً وصوراً.. بين الكثير الذي شدني تلك الصورة الجميلة المفاجئة لأمير المنطقة وعلى يساره الدكتور ناصر السلوم وبينهما الطفل الصغير: (محمد ناصر السلوم).. الذي كان وكأنه المنديل الأبيض الذي جاء مؤخراً ليمسح بقايا دموع الدكتور ناصر السلوم على ابنه البكر الراحل (محمد)الكبير.
dar.almarsaa@hotmail.comجدة