لي صاحب يعاني صداعا مزمنا في رأسه, يلم به شديدا في كل مرة يجابه خيارات مضنية فيحتار فيما يختار, أيقول ما يريد أو ما يجب أن يقال، وصاحبي، بدأ حياته صادق الطوية, ساذج الظن, سليم المنهج، عاقد العزم على حياة كريمة، ولكنه بات يرى الناس تقول مالا تعني وتفعل مالا تقول، فيجول في خاطره ألف سؤال, دفعت به لاستكناه جوابها من عمل عقله, فبات كثير الفكر والتأمل لعله يهتدي لخير حال ولكن حسن الحال بات من المحال، فجمع أمره على أن يعالج هذا الخلل.
ذهب صاحبي إلى الطبيب يشكو علته التي أوجزها بقوله «يا دكتور لقد ألمّ بي هذا التناقض فبت مشتتا بين ضمير يريد إصلاحا وفلاحا، أساسه عدل في النظر, وصدق في القول, وتغليب للحق, وهوى في نفسي يريد كسبا غير محدود يقوم على سطوة النفوذ وحجة القول ونباهة الحيلة, ولكل حجة وبرهان, فضميري يستشهد بالقرآن وجبلة الله خلقه على حب الخير وإحقاق الحق, وهواي يسخر من تلك السذاجة ويدعي أن الحياة صراع من أجل البقاء, القوي فيها سيد مطاع، على ما يقترف من رزايا, فسطوته تبدد كل ظن, وكلاهما يجادل لحيازة معاني العدل والرحمة والحقيقة والصدق عندي, فالضمير يرى أن العدل شرع الله في الناس يحتكمون له وبه تستقيم أمورهم، ما عليهم إلا الانقياد له لتكتمل سعادتهم, والرحمة هبة الله للقلوب بها يدفع الناس عن بعضهم آلام الدنيا, والحقيقة هي ذلك النور الذي به نرى ونميز فلا نتيه أو نتشتت, وأما الصدق فهو وصف حقيقة الأشياء والمعاني, ومع أن ما يبديه الضمير حري بالقبول والاحترام, إلا أن الهوى يسخر من ذلك ويعتبر الضمير حالما غير واقعي, فهو يدعي أن كل المعاني من اختراع الإنسان، ولا معيارية لها, فالعدل المطلق غير موجود, ولا يمكن أن يحدث في واقع تختلف فيه عوامل التأثير في العلاقات بين الكائنات, فالقوة والحاجة والحيلة وقلة الموارد المتوافرة بغير جهد كلها تجعل العدل نسبيا, وما أضل من ترميز العدل بالميزان, فالميزان متجانس التكوين والمؤثر في كفتيه واحد هو قوة الجاذبية, أما في واقع التعاملات فالعوامل المؤثرة كثيرة وتوزيع تأثيرها يخضع لمفاهيم مسبقة على تقييمها, لذا كل يرى العدل من جانبه, وبهذا يستقيم تعايش الناس, فالحاكم يرى العدل في عقاب المعتدي, وذلك يرى الظلم في عقابه والتجاوز عن غيره.
لذا يكون العدل عدلاً بمقدار القدرة على إلزامه, أما الرحمة فهي دفع لشعور الخوف من ذات المصير, وتعتمد على واقع العلاقة بين الراحم والمرحوم ومدى القدرة على رفع العناء عند الراحم, وهي ليست سوى مشاعر آنية تزول بزوال الموقف أو استدامته, فمن يرحم جريحا يتألم ويسارع لنجدته هو نفسه الذي يتمشى بين مئات الجرحى من الأضداد في معركة المكتسبات, لذا على الإنسان الواعي إدراك أن الرحمة دلالة ضعف تدفع الإنسان للتخلي عن مكتسباته بجدارة الآخر على استعطافه, أما الحقيقة فهي ليست نورا كما يدعي الضمير, وإنما هي ترجمة ذاتية لهوية الأشياء والمعاني بناء على مفاهيم مسبقة تأسس كل منها في ظروف مختلفة وبمشاعر مختلفة, فمن يعتقد بدوران الأرض حول الشمس هو لم يلمس تلك الحقيقة بصفة مباشرة ولكنه استشعرها من مقال مصدوق لديه, لذا فالحقيقة هي ما نقرر أنه حقيقة مقبولة, وأما الصدق فهو القول بما يطابق ما ندعي أنه الحقيقة ولا أحد غير الله يعلم ما في قرارة النفوس, والتاريخ لنا شاهد بخلافات من شُهد لهم بالصدق في القول والنزاهة في الفعل والقصد في الهدف, فلو كان لديهم معيار موحد لما اختلفوا. ويكمل حجته بأن علي أنا إتباعه, فما لطالب العلا إلا أن يقتنص الفرص كما تقتنص الطرائد, شيمته الوعي والحذر وسلاحه ما يناسب من ترسانة الغاية تبرر الوسيلة.
يا طبيبي العزيز, لقد بات في قرارة نفسي رغبة في التخلص من هذا الشغب في ذهني فعزمت أمري أن أضع رأسي على طاولة عملياتك فتفتحه وتبحث عن أي من الاثنين ، ذلك الضمير المؤرق أو ذلك الهوى المزعج, فمتى ظفرت بأي منهما فانزعه نزع قوي مقتدر لعلي أخلص من ذلك الصداع المؤلم».
فكر الطبيب وأجمع ظنه أن صاحبي غير سوي النفس, وعزم الأمر أن يسترسل في حواره لعله يهتدي لمكمن علته النفسية, فبادر الطبيب صاحبنا بسؤال الحائر: «ولكن إذا نزعنا الضمير فستكون أسير هوى مستبد ربما يوردك المهالك بجسارته وتهوره فتكون غولاً على الناس تفتك بهم وتستحل حرماتهم, وإذا نزعنا الهوى فستكون حبيس ضمير حذر يحسب الأمور بألف حساب فيصيرك ناسكا للمعاني طوباويا النهج قليل الحيلة, فينتهي بك الأمر لقنوط وخمول ربما يدفع بك للفتك بنفسك». وظن الطبيب أنه جرد صاحبي من حيلته وأحكم حيرته وعراه في فناء الاعتراف ليكشف للطبيب مكامن نفسه المتوترة.
عنها نظر صاحبي للطبيب نظرة المستجمع قواه للمنازلة ثم أطرق ناظريه للأرض وبابتسامة مصطنعة بادر الطبيب «أتظني مجنونا أو لدي خلة من وسواس؟», وقبل أن يجيب الطبيب تابع وكأنه لا يريد إجابة «يا دكتور سأشرح لك مكمن علتي حتى لا تضيع الوقت في استفهام صحة عقلي». وسحب الكرسي في زاوية الغرفة وجلس قبالة الطبيب وأخذ نفسا عميقا قبل أن يقول «سيدي الطبيب لا أعلم حالك ولكني أجزم أنك واحد من ثلاثة, فالناس على اختلاف مشاربهم ومللهم لا يملك واحدهم إلا أن يكون رهن جذاب هواه وضميره, فمنهم من يستسلم لديه الهوى للضمير فينقاد لسلوك تكسوه الطيبة والقناعة والعطاء والرحمة للكائنات بما فيها الإنسان, ومنهم من يستسلم ضميره لهواه فيصبح شديد الطلب للمكاسب والمتع أناني الحيازة غايته سيادة ذاته على من سواه, وأما الثالث فهو من توازن لديه الحوار بين الهوى والضمير, وبات كل سلوك لديه نتيجة لتفاهم بين الاثنين, وهو ما كنت أطمح إليه, فكنت أعتزل في بعض أوقاتي وأترك ضميري وهواي في حوار يعلو وينخفض, ولا أخفيك أنني كنت أعزز ذلك الحوار فأدعم كلا منهم بمطالعة فكر الفلاسفة والزهاد وأحبار علوم الدين حتى بات كل منهم حصيف البيان قوي الحجة, ومع مرور الوقت شسع بينهم البون, وأصبح كل منهم يحتقر الآخر ويمقته, وبات كل منهم يقتنص الفرص ليستبد بقراراتي, فأمسيت قليل التجانس في عقلي كثير التناقض في سلوكي, أستجلب لنفسي استغراب الآخرين من قلة ثباتي على نحو. يا سيدي الطبيب اتكل على الله وحضّر منشارك فقد بت قاب قوسين أو أدنى من أن ينفصم ذاتي».
فضحك الطبيب بعد أن تبين له أن علة صاحبنا ليست من اختصاصه.
mindsbeat@mail.comTwitter @mmabalkhail