يرصد الأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي في كتابه «بوادر المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية» الصادر هذا العام 2012، مسارات وتحولات تنظيمات المجتمع المدني في المملكة بدءاً من عام 1343هـ الموافق 1924م عندما التقى الملك عبدالعزيز رحمه الله بعلماء مكة المكرمة بعد دخوله المدينة بعشرة أيام وطلب منهم أن يحددوا وقتاً تجتمع فيه نُخب البلد من العلماء والأعيان والتجار، وينتخبون من يمثل المصالح العامة والنظر في شكاوى الناس ومطالبهم. وقال لهم الملك المؤسس: «إن بعض الدول تجعل من تلك المجالس شكلاً وهمياً»، وأوضح: «أما أنا فلا أريد من هذا المجلس الذي أدعوكم لانتخابه أشكالاً وهمية، وإنما أريد شكلاً حقيقياً يجتمع فيه رجال حقيقيون يعملون جهدهم في تحري المصلحة العامة. لا أريد أوهاماً وإنما أريد حقائق. أريد رجالاً يعملون، فإذا اجتمع أولئك المنتخبون وأشكل عليَّ أمرٌ من الأمور رجعت إليهم في جلسة وعملت بمشورتهم وتكون ذمتي سالمة والمسؤولية عليهم، وليس لأحدٍ من الذين من طرفي سلطة عليهم».
ويمضي الأستاذ القشعمي في رصد تجربة التنظيمات المدنية وتجارب الانتخابات في المملكة، انطلاقاً من البدايات الأولى لانتخابات مجلس الشورى القديم، ومروراً بالنقابات والروابط والمجالس البلدية والغرف التجارية والجمعيات وغيرها. ويستعرض الجدل الذي دار بين المفكرين والكُتَّاب وقادة الرأي العام على صفحات الصحف حول مدى اهمية الانتخابات وإقامة النقابات والروابط، وانقسامهم بين من يرى ضرورتها ومن يرى أن الوقت غير ملائم ويطالب بالتأجيل بسبب الافتقار إلى الوعي والتعليم في المجتمع. فهذا حسين سرحان رحمه الله يكتب في جريدة الندوة بتاريخ 17-8-1379هـ الموافق 14-2-1960م معارضاً من يرى عدم ملاءمة الانتخابات لظروف بلادنا، فيقول: «ومما لاريب فيه إنَّنا نحن أرقى وأوعى من كثير من الدول الإفريقية والآسيوية التي استقلت منذ وقت قريب، وتحررت من نير الاستعمار، ومع ذلك فإن لتلك الدول مجالس برلمانية تتألف من كل الشقين: نواب وشيوخ، علاوة على مجالس أخرى مستقلة من تشريعية وتنفيذية ومن هيئات شتى من قضائية ومدنية إلى نقابات لمختلف المهن، وأندية رياضية وثقافية، وكل ذلك على الرغم من أنهم لم يبلغوا مستوانا في الرقي والتعليم والمدنية».
إن القارئ لكتاب الأستاذ القشعمي يخرج بحصيلة ثرية عن تجربةٍ بدأت منذ زمن مبكر، وكان يمكن أن تتبلور وتنضج مع الأيام، خصوصاً أن مستوى الوعي والتعليم قد ارتفع بشكل كبير منذ ذلك الوقت. بل إن هذه التجربة كانت من التنوع والشمولية بحيث استوعبت حتى التنظيمات النقابية لأبسط المهن، ففي العدد الصادر من جريدة الندوة بتاريخ 14 رمضان 1380هـ يظهر إعلانٌ بعنوان: «انتخاب شيخ مقشري الأسماك» جاء فيه: «تعلن دائرة بلدية جدة لكافة طائفة مقشري الأسماك بأن يتقدموا بانتخاب شيخ لطائفتهم يعين اسمه ويوضع في باطن ظرف مغلق، ويُحْضِره كل شخص من أهل الحرفة بنفسه لوضعه في صندوق الانتخابات الخاص بدائرة البلدية في مساء يوم الأحد 25 - 26-9-1380هـ؛ ولمعلومية الجميع بذلك صار نشره».
لقد حان الوقت للبناء على هذه التجربة الطويلة، والنهوض بتنظيمات المجتمع المدني في بلادنا بما يتناسب مع أهمية المملكة ودورها عربياً وعالمياً. وتحية للأستاذ محمد عبدالرزاق القشعمي على جهده التوثيقي لهذه التجربة.
alhumaidak@gmail.comص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض