صوتها عذب، هادئ جميل..
مرة ينسكب مستكيناً كالماء الزلال، وتارة يذوب كما قطعة سكر في قاع فنجان من الأحلام الملونة، وتارة أخرى يتهادى كموجة تتحد بأختها، تتبعها أينما ذهبت..
هكذا كانت هي، وأنا أتواصل معها لا لجمال صوتها وحسب وإنما لأن ثمة علاقة ما تنمو فيما بيننا لابد من تغذيتها بمزيد من الحوار، تمضي الساعات ونحن نقلب الكلمات..
هل يمكن أن يسمى الحوار المطوّل المتشعب، عبر الهاتف غالباً (صداقة)؟..
إذا كان ذلك صحيحاً فلي أن أسميها (صديقتي)..
صديقتي هذه غيبتها المسافات والأيام عن ناظري فلم أعد أدري على أي أرض وتحت أي سماء هي، لكنني ورب البيت أتمنى لها كل خير أينما ذهبت ومهما كانت الظروف التي أخذتها بعيداً عني، كانت طبيبة ناجحة، في رأيي، فقد كانت تداوم في عيادتها يومياً ولها زبائنها الذين يتواصلون معها..
لكن يبدو أننا لم نلتق كثيراً في الأفكار، فكم كنت أتمنى أن نجلس أنا وهي سوياً خارج نطاق العمل، يومها كانت في حوالي الثلاثين من عمرها، لكن كان لديها إحساس عميق خلّفته أوهامها وغذته أفكار من حولها أنها بلا قيمة مادامت بلا رجل (زوج)، وقد تحدثت معها مطولاً حول ذلك إلا أن حالتها كانت أشبه بمن يحاول الصعود إلى قمة الجبل، ثم يقف، يتلفت يمنة ويسرة ثم يعود خطوة أو خطوات إلى الوراء حيث كان لابد لي من إعادة الحوار معها والإقناع لها في المرة التالية حين نتطرق لمثل هذا الموضوع، هذا عدا أنها قيدت نفسها بنفسها بألف قيد وقيد، رغم أن من كانت في مثل وضعها ينبغي لها أن ترفع رأسها عالياً وتمضي في بناء مستقبلها دون التفاتة إلى الوراء.
قلت لها مرة: أترافقينني للذهاب إلى أحد المطاعم العائلية (مثلاً) في الرياض، أجابت: لابد لي أن أصطحب معي أحد محارمي الشباب، ولا أدري كيف سنذهب برفقة محرمها؟.. هل ستبقيه في السيارة أو في الخارج لحراستنا أنا وهي أم أنها ستبقيه حول طاولتنا كي لا يمسّها سوء أم ماذا؟..
أقول لها مرة: لنذهب للتسوق.. فتجيبني: لا أذهب إلا ومعي ابن شقيقي أو شقيقتي، فأقول هذا يكفي وينوب عن صديقة مثلي!!..
تحدثنا مرة عن الرجل الذي يقوم نيابة عن زوجته بكل الأعمال الكبيرة والصغيرة إلى درجة أنني رأيت رجلاً يمسك بأقمشة نسائية بين يديه ويشرح للخياط بإسهاب (الموديلات) المقررة لزوجته، كل ذلك كي لا تتحدث زوجته مع الخياط ولا أدري لعله أيضاً اختار لها بنفسه (موديلات) فساتينها، حين طرحت هذا الموضوع أجابت بمنتهى اليقين والثقة: نعم، هذا دليل على حبه لها!!..
حين تصل إلى هذه القناعة أشعر بشيء من الذهول وبأن حالة صديقتي الغائبة أصبحت صعبة جداً، هي تؤمن بأشياء كثيرة هي نتاج البيئة المحيطة ضربت في وجدانها، عقلها وروحها فأصبحت قناعاتها هي تتبناها في كل مناسبة وتدافع عنها.. ترى كم تحتاج صديقتي إلى تغيير طريقة تفكيرها؟!..
وهل استمرت في عملها طبيبة، يحتاجها الكثيرون لتمد إليهم يدها، وهي ذاتها من تحتاج إلى من يساعدها للصعود إلى فضاء العالم الجميل بكل تناقضاته؟..