يرقب الوالدين ابنهم أو ابنتهم في المرحلة المتوسطة، ويحرصون على إدخاله دورات لغة إنجليزية إضافية، ويشترون له حاسوباً، لأن رجال الأعمال يريدون من يعرف الإنجليزية والحاسوب. وتبدأ مرحلة الضغط الدراسي الحقيقي في المرحلة الثانوية فهي أم مراحل التعليم العام لأنها تحدد قبول الطالب أو الطالبة في الجامعة..
.. لا سيما المرحلة التوجيهية التي تعد كابوساً لجميع الأسر، إن والدين أو مولودين، وعلى وجه الخصوص تلك الأسر التي ليس لديها ملايين فائضة عن حاجتها لتصرفها على تعليم خاص لأبنائها. وما ‘ن تنتهي مرحلة التوجيهية حتى تبدأ مرحلة القبول الجامعي التي تقطع فيها الإجازة الصيفية ويبدأ الركض في كل اتجاه للحصول على قبول، أو بعثة وبعد الجامعة يستعد الوالدان لحصد الجهد الذي بذلوه طيلة العمر من جهد مالي ونفسي وبدني، ولنا أن نتصوّر حالهم، وحجم خيبة أملهم إذا لم تكن هناك وظائف لأبنائهم. فالتعليم استثمار ليس للأسرة فقط، بل للدولة أيضاً التي تصرف عليه جزءاً كبيراً من الموازنة، وإذا لم يستفد منه بمردود إنتاجي فهو خسارة صريحة.
البطالة، أو بلغة أصح العطالة، بلا شك ظاهرة عالمية ولكن بنسب متفاوتة، وبعض الدول، وخصوصاً الرأسمالية منها، تنظر للمستوى المتدني للبطالة على أنه شيء إيجابي، حيث تعتبر العاطلين قوة عمل احتياطية، مثلما تنظر للعجز المالي المحدود على أنه أداة من أدوات تنظيم الميزانية. وما إن تفوق العطالة 5% حتى تبدأ أجراس الإنذار بالقرع، لأن في ذلك إضافة، للأدواء الاجتماعية، انعكاسات جانبية اقتصادية على القوة الشرائية، والإنتاجية للمجتمع، لأن نسبة كبيرة من المجتمع تصبح غير منتجة، ومفلسة، ومحبطة، وتكلّف الدول مبالغ طائلة تضاف لرعايتهم الاجتماعية.
الشباب القادر على العمل يعد القوة العاملة الأساس في المجتمع، إما أن تكون منتجة للمجتمع أو عاطلة وعالة عليه، وهذا يعتمد بدرجة كبيرة على التنظيم الاقتصادي، والقدرة على جلب الاستثمارات التي تخلق الوظائف. فالقدرة على توفير الوظائف هو العامل الأول في اعتبارات الدول المنتجة لمنح الحوافز للاستثمارات. ولجميع الدول إجراءات وتدابير حازمة في حماية قطاعاتها الوظيفية، ولذلك فإدارة سوق العمل تعتبر من أهم وأعقد جوانب التخطيط الاقتصادي. وجميع الاقتصادات تحرص على توفير بيئة عمل جاذبة للاستثمارات لكنها لا تقبل ربط ذلك باشتراط الاستثمار باستقدام العمالة المؤقتة من الخارج لأن ذلك ينفي مباشرة الفائدة الأساسية من الاستثمار.
يكثر جلب العمالة الخارجية عادة في القطاع الخدمي باعتباره قطاعاً غير منتج ولا يتأثر بنفس القدر بانسحاب العمالة المفاجئ، كما أن بعض الأعمال الخدمية menial jobs لا يرغب أفراد بعض المجتمعات الميسورة في ممارستها ولذلك تجلب من الخارج، ولكن معظم المجتمعات لا تقبل شغل وافدين للوظائف المنتجة، والوظائف العالية في المجتمع إذا انعدمت عوامل التنافس في هذا المجال في كون العمالة الوافدة تبدو ظاهرياً لأرباب العمل أرخص من العمالة المحلية على الرغم من أن كلفتها الإجمالية الحقيقية على الاقتصاد قد تتساوى معها. وهناك مبدأ يغفل عادة، وهو أن العمالة الرخيصة تقدم منتجاً رخيصاً، والعمالة الجيدة المدربة تنتج عملاً متقناً والسوق يعج بالجيد والرخيص من البضائع في تنافس نوعي سعري.
المفارقة الاقتصادية والمنطقية التي تستعصي على الفهم هي أن يكون في اقتصاد ما نسبة عالية من البطالة مع وجود ثلاثة أضعافهم من العمالة الوافدة المؤقتة. وهذا لا يمكن أن يكون إلا بوجود خلل تركيبي في الاقتصاد وفي طبيعة عمل الماكينة الاقتصادية، فهي تكون أشبه بالماكينة المحلية التي تعمل بوقود أجنبي مستورد في بلد يعاني من فرط وفرة الوقود. الدولة رعاها الله، قدمت دعماً كبيرًا، بل أحياناً أكبر من المعتاد لقطاع الأعمال من أجل خلق قطاع خاص يقلّل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل، والدولة كالمصدر الوحيد للوظائف، والنتيجة هي خلق قطاع خاص لم يستطع الانفصام عن الدولة ذاتها، وبدلاً من أن يعين الدولة في جوانبها الاقتصادية خلق لها أعباء إضافية في رعاية أعداد كبيرة من العمالة الوافدة. ومما زاد الطين بلة هو تحول استيراد وقود الماكينة الاقتصادية لدينا، العمالة الوافدة، لنشاط اقتصادي في حد ذاته قد يفوق في ربحيته بعض النشاطات الاقتصادية الأخرى، ولذلك، ولأسباب مختلفة، ولا نقول لأمور غير مشروعة أحياناً، تم إغراق الاقتصاد بالعمالة الوافدة. وتدريجياً أصبحت العمالة الوافد هي من يدير سوق العمالة الوافدة.
اقتصادياً نحن لا نخسر فقط في تمويل العمال الوافدة، حيث إنها أيضاً تستفيد من الإعانات والإعفاءات، ولكننا أيضاً نصرف على تدريبها وتقديم الخبرة العملية لها، في الوقت الذي نخسر فيه تدريب أبنائنا ونحرمهم من فرص العمل. فالشاب الذي يبقى سنوات خارج سوق العمل في مجاله يفقد كل تعليمه وتدريبه الجامعي. ويخسر معه أيضاً والديه الذي استثمروا فيه وتعبوا على تعليمه، والمجتمع ككل. وسيناريو التقاعس في الدراسة أو التسرّب من الجامعات بسبب الإحباط واليأس من العثور على وظيفة في المستقبل سيناريو مخيف. فالبطالة كالخيط المعقد العشوائي الذي يزاد طولاً والتفافاً كلما حاولت التخلص منه بفك عقده دون قطع الخيط ذاته. و نحن سمحنا للبطالة أن تتطور حتى أصبحت خيطاً معقداً يصعب التخلص منه دون إجراءات صارمة مؤلمة.
والدولة بلا شك جادة في معالجة البطالة، بل إن النظام الأساسي للحكم نص على أن لكل سعودي الحق في الحصول على عمل يكفل له عيشة كريمة. ولذا يجب أن يكون علاج البطالة، وإيجاد فرص عمل للشباب من أول أولويات التخطيط الاقتصادي. وبما أنها بلغت مبلغاً كبيراً في المجتمع فلا بد من اللجوء لحلول صارمة أخذاً بمبدأ أن آخر العلاج الكي. فيمكن مثلاً إعادة هيكلة الاقتصاد بحصر الحوافز، والتسهيلات، والدعوم في الأنشطة الاقتصادية التي تخلق وظائف للشباب السعودي فقط، وهي في حالتنا أنشطة اقتصادية تحتاج لعمالة مدربة يصعب استيرادها بمبالغ زهيدة، ولنا في شركات البتروكيماويات، والبنوك، والخدمات الفنية دروس مستفادة، ولدينا من العمالة المتعلمة المدربة أعداد كبيرة مؤهلة هي اليوم خارج الخدمة. كما يمكن ربط العمل في كثير من المهن بتصاريح عمل تجدد بشكل دوري، ولا يكتفى بمنح الفيز فقط، أسوة بما هو متبع في الدول الأخرى، حيث يمنع الأجنبي منع باتاً من مزاولة بعض المهن، كالأعمال الإدارية، والمحاسبة، والصيدلة، والدعاية والإعلام، وقطاع التجزئة من تموينات، وقطع غيار، ومواد بناء إلى آخر ذلك من الوظائف ذات الدخل المجزي. وللمعلومية فالسعودي يعمل كهربائياً، وسباكاً في أرامكو، أو تحليه المياه، أو التصنيع، ولكنه لا يستطيع منافسه السباك الوافد المتستر عليه في الشارع.
ويمكن أيضاً الاستفادة من سوق المال بطرح شركات مقاولات، وشركات خدمات كبرى شبه حكومية في مختلف المجالات، تكون لها الأولوية في تنفيذ المشاريع الحكومية بشرط توظيف عمالة سعودية، فكثير من المشاريع الحكومية تنفذ بمبالغ مجزية جداً وتكون مربحة حتى ولو كانت عمالتها سويسرية. وقد أثبتت تجربتنا الاقتصادية أن المؤسسات شبه الحكومية هي أنجح المؤسسات المنتجة في اقتصادنا. ولا بد قبل كل شيء أن نوفر إحصاءات دقيقة ليس فقط لعدد العاطلين، بل لطبيعة مؤهلاتهم، وإحصاءات أخرى للوافدين والوظائف الفعلية التي يشغلونها، بحيث يتم إحلال السعوديين بدلهم بشكل منهجي وبناء على سلم رواتب للقطاع الخاص يشبه السلم الحكومي. وللوظائف التي لا يوجد مؤهلون سعوديون لها يتم إعداد برامج تأهيل مباشر لمجالات هذه الوظائف يتحمل صاحب العمل جزءاً من كلفتها. أما الوظائف المتدنية الدخل فهي ليست أولوية لإحلال السعوديين لأنهم لا يرغبون فيها أصلاً، وفي اقتصادنا من الوظائف المتوسطة والعالية الدخل ما يكفي لتوظيف جميع شبابنا ويزيد. ولكن للأسف فنحن بدلاً من توطين الوظيفة وطّنا الأجنبي الذي يشغلها لدرجة أن نسي طريق العودة لبلاده، وبدلاً من سعودة الوظيفة سعودنا بعض ممن يشغلون هذه الوظائف بحمايتهم بالتستر عليهم. فلا يمكن الحديث عن توطين ما هو للوطن والمواطن، وسعودة ما هو أصلاً سعودي.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif