يمنح الملك عبد الله - شفاه الله وعافاه - مواطنيه قطع أراض في مختلف مدن المملكة بمساحات لا تقل عن 900 متر مربع للقطعة الواحدة؛ وقد صدرت قبل شهر أوامر ملكية كريمة بهذا الخصوص لآلاف المواطنين، وهذه المنح استمرار لأوامر ملكية سابقة تصدر بين وقت وآخر للمواطنين تقضي بتمليكهم أراضي؛ رغبة في التخفيف من أزمة السكن، وللحد من غلاء أسعار العقار التي أصبحت لا تحتمل، وعلى الأخص في المدن الكبرى من بلادنا.
ما أكتبه هنا من ملحوظات على تخصيص هذه القطع من الأراضي الممنوحة بأوامر ملكية لا يقلل أبدا من الرغبة السامية المخلصة لمساعدة المواطنين؛ لكن أسلوب وطريقة تطبيقها من الأمانات والبلديات محل إدارة هذه التساؤلات في هذا المقال، مع فضفضة شفافة للتعبير عن آلام وأحلام من يتوق إلى تملك عقار لكنه لا يستطيع ؛ إما لغلاء الأراضي، أو لبعد مواقعها عن المدينة بعدا شاسعا يحرمها من الخدمات، أو لأن قرض الصندوق العقاري لا يغطي إلا جزءا يسيرا من تكلفة البناء ؛ لغلاء مواده وارتفاع تكاليف العمالة.
تطبق البلديات والأمانات هذه الأوامر الملكية السامية عادة في مخططات بعيدة جدا عن الأحياء السكنية، لا تتوافر فيها أية خدمات ضرورية من كهرباء وماء وصرف صحي - أكرمكم الله - وتكون شبه منقطعة عن المدينة التي صدرت فيها الأوامر كمدينة الرياض مثلا، وأتذكر أنه صدرت لي منحة الجامعة بعد تخرجي بعامين، أي في عام 1402هـ وطبقت في تلك السنة وفي وقت قياسي في ظهرة لبن، وكانت جبالاً خالية موحشة بعيدة عن المدينة وخالية من أية خدمات، فلم آبه بها، ولم أعول عليها، واضطررت إلى أن أشتري لي أرضا سكنية بعد جمع وطرح وضرب وتكسير! وظلت تلك المنحة نائمة في مخزني خوفا عليها من الاختطاف، مع أن أحدا لن يرغب فيها في ذلك الوقت حتى لو قدمت له هدية ؛ لأنه لن يجد فيها غير الكلاب الضالة! ولازالت تبعد عن زحف البناء في لبن بأكثر من خمسة كيلومترات!
فكيف تطبق الأمانات أوامر المنح - كما هو الشأن الآن في منح الأكاديميين وغيرهم - في مخططات خالية من أية خدمات، وغير معبدة الطرق، ولا مخططة القطع، ولم تصل لها بعد الضرورات التي لابد منها كالكهرباء والماء والصرف الصحي، وربما أيضاً يكون بعضها منقطعا عن المدينة وغير مرتبط معها بطريق مسفلت؟!
هل الغاية أن يحتفظ المواطن بصك يوثق له أنه يملك من تراب بلده بضعة مترات مربعة لا تصلح للسكن ولا حتى للاتجار؛ لأن أسعارها لبعدها لن تأتي بعشر مساحتها قريبا من الأحياء السكنية في أطراف المدينة؟! أم أن المراد إسكات طالب المنحة بصك لا يغني ولا يسمن من جوع، ولا ينقذه من إيجار سنوي يلتهم ربع راتبه الشهري أو أكثر، ولا يخفف عنه تسلط مخاوف التشتت على عائلته حين تكون بلا مأوى، أو حين تفقده وهو رب العائلة في أية لحظة والأعمار بيد الله، فلا تجد لها بيتا تملكه يحميها ويسترها ويأويها عن التنقل من مسكن مؤجر إلى غيره!
أليست الغاية النبيلة السامية التي صدرت لتحقيقيها الأوامر الملكية تقضي بأن يتم تطبيق هذه المنح في مواقع قريبة وتتوافر فيها كل الخدمات الضرورية، وتكون مهيأة للبناء وللسكن؟! وهل يمكن أن يكون تجار العقار أقوى وأفضل وأكثر قدرة من الأمانات في توفير الخدمات وتهيئة المخططات؛ فحين يعرض بعضهم مخططا للبيع لا يعرضه إلا وهو مكتمل السفلتة والإنارة والأرصفة والتشجير، وقد وفر له كل الخدمات الضرورية؛ ولذا يرفع سعر المتر فيه بصورة خيالية لتوفيره كل هذه الميزات! أفتعجز الأمانة عن أن تكون قريبة أو شبيهة بهذا التاجر الشاطر الممتاز أو ذاك، فلا تطبق أوامر المنح إلا بعد أن تستوفي كل شروطها لتجعلها منحا حقيقية على اسمها وجاهزة فورا للبناء وليس للانتظار عشرات السنين أو للبيع بثمن بخس؟!
مسكين والله مسكين من تاق أو فكر أو راودته أحلام وردية في شراء قطعة أرض سكنية في مخططات قريبة من الرياض! سيدخل في حسابات عسيرة ليحقق شيئا من هذا الحلم الوردي، وسيصعق صعقا أينما ولى وجهه؛ فإن ولى شطر الشمال أو الشرق أو الغرب أو حتى الجنوب فلن يسمع من مكاتب العقار التي ترفع الرقم في العرض وتخسف به عند الطلب! لن يصك مسمعيه الخاويين إلا ألف وسبعمائة ريال للمتر الواحد في المواقع البعيدة قليلا، التي لم تطأها الحفارات ولم تشتعل فيها حركة البناء بعد؛ أما ما هو مقبول وقريب فإنه سيطرق رأسه رقم لم يكن يتخيل أن يسمعه، ولا دار في حساباته المحدودة، فسيسمع أن المتر هنا بألفين وخمسمائة ريال وأكثر من هذا إلى أن يصل إلى ثلاثة آلاف ريال للمتر الواحد!
فإذا كان طالب السكن من متوسطي الحال وأراد أن يشتري قطعة متوسطة المواصفات مساحتها 500م بسعر 1800 فهو مضطر إلى أن يدفع 900 ألف ريال فقط للأرض، أي ما يقرب من مليون، وعليه أن يتحمل تكاليف البناء التي لن تقل عن مليون آخر مع التقشف وتجنب الأعلى جودة وقيمة من أدوات البناء ومستلزماته.
وأمام هذا الواقع الصعب أتساءل: كيف لمتوسط الحال أن يوفر مليون ريال ثمن الأرض ثم مليونا آخر لإعمارها؟ ألا يمكن أن تلزم الأمانات والبلديات إلزاما بأن تختار مواقع أقرب وأفضل لتطبيق المخططات، وألا تسلمها للممنوحين إلا جاهزة ومهيأة للبناء؟!
ثم ألا من هبة من جهات عليا لكبح جماح غلواء إقطاعيي العقار الذي يفرضون الأسعار التي يريدونها دون رادع أو وازع من ضمير؟ فهم في الأعم الأغلب يتملكون المواقع المميزة المناسبة للسكن ولا أحد يمكن أن يقول لهم: لا، هذا جشع وطمع، وهي قد تحدرت إليكم بطرق يسيرة، وبأثمان بخسة، وهي قد أهديت إلى مالكها الأول بقصاصة ورق صغيرة!
هذا الفضاء الواسع الرحب الذي يكاد يكون بلا نهاية والممتد إلى ما لا نهاية يضيق عن احتضان أحلام كثيرين من أبنائه فلا يملك كثيرون منه غير متر واحد لا يسكنونه إلا بعد مغادرة هذه الحياة!
moh.alowain@gmail.commALowein@