قبل بضعة أعوام كانت الأوضاع في أقطار أُمَّتنا، التي قامت فيها أخيراً هَبَّات شعبية، تُحطِّم المعنويات، وتكاد تبعث اليأس والقنوط في نفوس المخلصين من هذه الأُمَّة. غير أنّ تلك الهَبَّات الشعبية أعادت الكثير من الثقة في هذه النفوس، وحَوَّلت طيوف اليأس والقنوط إلى ملامح أَملٍ يُرجَـى أن يكتمل قطاف ثمارها على أحسن وجه.
لقد زال من تونس، بلد الثعالبي وأبي القاسم الشابي، عهد كريه جمع بين الفساد الإداري الاستغلالي وإرهاب المؤمنين في دينهم وممارستهم لشعائره. والأمل في الله قويّ أن يهدي الجميع؛ وبخاصة المتطرِّفين هناك، إلى سواء السبيل كي تجني تلك البلاد العزيزة لدى المخلصين من أبناء هذه الأُمَّة وبناتها ما يُرجَى من ثمار هَبَّتها، التي أتت مبرهنة على صدق قول أبي القاسم:
إذا الشعب يومـاً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القـدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
وزال من ليبيا، بلد عمر المختار، عهد يصعب وصفه؛ بطشاً وفساداً ورعونة. ولو لم يكن من هَبَّة شعبه إلاّ إزالة ذلك العهد لكفاها إسهاماً في تصحيح مجريات أمور أُمَّتنا. وزال من اليمن عهد عثا فيه الفساد أكثر من ثلاثة عقود، وكاد حكمه يَتحوَّل إلى حكم وراثي لا يتَّسم بما اتَّسمت به بعض الأنظمة الوراثية من صفات الرشد؛ بل بما اتَّصف به مُؤسِّسه من فساد وإفساد.
أما مصر العظيمة، كبرى أقطار أُمَّتنا العربية، موطن الحضارة العريقة ومنطلق إشعاعات الأزهر المضيئة وغيره من مؤسسات العلم، فَهبَّتها لها من الأثر الإيجابي ما يتناسب مع مكانتها العظيمة. ولو قال قائل: لو صلحت أوضاع مصر لصلحت أوضاع أُمَّتنا العربية كلها لما قيل: إنّ قوله جانب الحقيقة.
كان فساد العهد هناك قد استشرى طوال ثلاثة عقود، وكاد - لو لا عناية الله - يصبح هو الآخر حكماً وراثياً؛ فاسداً إدارياً يرث فاسداً إدارياً. وكانت هيبة مصر؛ إضافة إلى ما نخر في جسدها الداخلي من فساد، قد أوشكت أن تفقد؛ وبخاصة في تعامل قيادتها مع المُحتلِّين من الصهاينة. لقد رأى الجميع كيف يأخذ حاكم مصر بالأحضان المرحِّبة المجرم الصهيوني اليعازر مع أنّ هذا المجرم هو الذي أمر عشرات من الجنود المصريين، عام 1967م، أن ينبطحوا على الأرض صاغرين، ثم جعل المجنزرات تمشي على أجسادهم حتى تَمزَّقت. ورأى الجميع، أيضاً، كيف أنّ وزيرة خارجية الكيان الصهيوني تعلن؛ وهي إلى جانب رئيس مصر وفي مكتبه، أنّ كيانها سيهجم من الغد على غزة دون أن ينبس هو ببنت شفة. بل إنه راح يعلن - بعد ذلك؛ مفتخراً أنه سيقيم جداراً من فولاذ يمنع الاتِّصال بغزة وأهلها المحاصرين. بل إنه أسهم في حصارهم. وكنت قد نشرت قصيدة في شهر يناير من عام 2010م عنوانها “عام من الذُّل”. ومما ورد فيها؛ مشيراً إلى ما آلت إليه الأمور في مصر نتيجة سوء قادتها، الذين استمرأوا كؤوس الذُّل من كفِّ أعداء أُمَّتنا:
وغدوا للغَاصبِ خُدَّاماً
أَو جُنداً من بين العَسكرْ
يُبدون الطاعةَ في خَوفٍ
مِمَن بالأَمرِ قد استأثَر
وإذا ما احتاج لِبَرهنةٍ
من جُملةِ طاعاتٍ تُذكَر
فَحِصارٌ يَكتمُ أَنفاساً
وجِدارٌ من دون المَعْبَر
سَدٌّ لكن من فُولاذٍ
خَشية أن يُخرَق أو يُكسَر
والطَّاعة كُنز لا يَفنَى
والفَاهمُ بالدنيا أَخبر
وفِعَال مُطيعٍ قد تدنو
من شِركٍ أَكبرَ أَو أَصغر
والوَيْل الوَيْل لمن يَعصي
رَغباتٍ من عَمٍّ أَكبر
أو يعصي أَمر نتنياهو
في أَرض المَسْرى والمَحْشَر
ومما ورد في القصيدة عن ذلك العام من الذُّل، وحاكم مصر المُويَّد من قِبَل أمريكا، والذي كان كنزاً للكيان الصهيوني، كما قال أحد قادة ذلك الكيان:
يا عاماً مَرَّ وكاتبه
سَطَّر عن وضعيَ ما سَطَّر
عن شَعبٍ دُجِّن مقهوراً
وزعيمٍ أَخرس من يُقهَر
عند المُحتلِّ له نَفَسٌ
أَطيبُ من رائحةِ العَنْبر
وحَديثٌ سَبْكُ عِبارتِه
أَحلى في الطَّعمِ من السكُّر
وعلى مَحكومٍ مُضطَهدٍ
أَمضى في السَّطْوةِ من عنتر
ومُوَلَّى يُنكِر مَعروفاً
ويُمارسُ في النادي المنكر
وعِصابةُ سُوءٍ فاسدة
في نَهْب المال هي الأَشطر
وكان ختام تلك القصيدة:
أَوَ ما في الأفق سَنَا أَملٍ
بِربيعٍ مُخضلٍ أَخضر؟
وأُباةٌ سَيفُ عَزائمهم
يَجلو أَدرانَ من استكبر؟
سَيفٌ للأُمَّة مَسلولٌ
يَستأصل شانئها الأَبتر؟
وبعد عام من نشر تلك القصيدة؛ أي شهر يناير من عام 2011م، قامت الهَبَّة الشعبية في مصر بين ما سُمِّي بالربيع العربي.
ومن الهَبَّات الشعبية العربية ضد الأنظمة الفاسدة الظالمة هَبَّة أكثرية الشعب السوري ضد النظام البوليسي الفاسد، الذي أصبح وراثياً؛ وهي الهَبَّة، المنصورة بعون الله، التي تكاد تكمل العامين من عمرها.
وموقف من وقف ضد تلك الهَبَّة من زعامات عربية؛ مثل الزعامة العراقية، موقف مفهوم لأنّ الزعامة العراقية تدور في فلك الزعامة الإيرانية المرتبطة مع الزعامة السورية المُتسلِّطة؛ إيديولوجياً ومصيرياً. لكن من غير المفهوم وقوف من وقف من الزعامات العربية غير العراق، وغير لبنان التي لها وضعها الخاص المعروف، موقفاً أقرب إلى تأييد النظام السوري المُتسلِّط منه إلى تأييد الهَبَّة الشعبية في سوريا أو على الحياد في أقلِّ الأحوال.
أما موقف أمريكا، التي ما زال لها الكلمة النافذة في العالم، من الهَبَّة السورية ضد النظام الذي ارتكب - وما زال يرتكب - أفظع الجرائم، فموقف يمكن تفسيره. إن ظن ظان بأنّ زعامة أمريكية سوف تَتحرَّك ضد ارتكاب الجرائم من وازع إنساني فهو لم يقرأ تاريخ زعامات أمريكا، ولم يَتأمَّل حاضرها.
في منطقتنا العربية كل ما يُهمَّ الزعامة الأمريكية، سواء كانت هذه الزعامة متصهينة، أو مضطرة إلى مراعاة نفوذ الصهاينة داخل أمريكا، هو خدمة الكيان الصهيوني. وسوريا مجاورة لفلسطين المُحتلَّة من قِبل الكيان الصهيوني. ولقد أسعد ذلك الكيان، أنّ حدودها معه ظَلَّت هادئة طوال أربعة عقود. وكان أحد الصهاينة قد قال - بعد ثلاثة أسابيع من اندلاع الهَبَّة في سوريا: إنّ مخابرات الكيان درست الوضع، وتَبيَّن لها أن تَغيّر النظام هناك ليس في مصلحتها الآن. وما دام ذلك ليس في مصلحتها فإنّ زعامة أمريكا لا يمكن أن تَتحمَّس لما ليس للكيان الصهيوني مصلحة فيه. وكل يوم يَمرُّ يزداد الوضع في سوريا؛ تقتيلاً وتدميراً. وكل هذا في مصلحة الصهاينة. ولذلك فليس غريباً أن تحاول الزعامة الأمريكية تثبيط عزائم من يحاولون دفع الظلم عن المظلومين المرتكبين لأفظع الجرائم الإنسانية.
والمُتأمِّل في مجريات الأمور على الساحة السورية يرى أنّ هناك بوارق أمل في انتصار الصامدين أمام جبروت الظلم والبطش. فالثائرون ضد هذا الجبروت يحرزون انتصارات ميدانية جيدة، والوجه السياسي للهَبَّة السورية، أيضاً، يُحقِّق تَقدُّماً واضحاً. وكُلٌّ من هذا وذاك لا يسرُّ قادة الكيان الصهيوني. وما لا يَسرُّ هؤلاء القادة لا يَسرُّ حتماً زعماء أمريكا المراعين لذلك الكيان؛ حباً متصهيناً أو خضوعاً لنفوذ صهيوني داخلي لا هروب من قبضته.
ويُفسِّر بعض المُحلِّلين ارتكاب الكيان الصهيوني الأخير على قطاع غزة في هذا الوقت بالذات، على أنه مراعاة للانتخابات التي سوف تَتمُّ قريباً في ذلك الكيان. ومما يعلمه الجميع أنّ العداوة للعرب متأصّلة في نفوس الصهاينة. ومن يشك في ذلك فهو لم يتدبَّر القرآن الكريم، ولم يتأمّل التاريخ حقّ التأمُّل. فمراعاة زعماء الصهاينة - وهم على وشك دخول انتخابات - تلك العداوة المتأصّلة ورقة رابحة في أيديهم لا بد لهم من استخدامها. لكني أرى، أيضاً، أنّ ما لاح من بارقة أمل بالنسبة للهَبَّة السورية؛ عسكرياً وسياسياً، سبب من أسباب هذا العدوان في هذا الوقت بالذات؛ أملاً في إشغال الرأي العام العالمي عما يجري على أرض الميدان السوري.
على أنّ الصهاينة والمتصهينين وأشياعهم يريدون ويريد الله أمراً آخر يراه المتفائلون بنصر الله للمظلومين. وإذا قارن المرء - مثلاً - كيف كان موقف زعامة مصر المتخاذل، إنْ لم أقل المتواطئ، مع الصهاينة في عدوانهم على غزة قبل أربع سنوات وكيف أصبح موقف زعامة مصر الآن، يرى ما يبعث على الأمل. وإذا كان موقف زعماء دول مجلس التعاون الخليجي المُشرِّف تجاه الأعداء من الصهاينة فإنّ مما يُذكر، ويُشكر، لقادة تونس الحاليين موقفهم النبيل تجاه العدوان الصهيوني. أما ما قامت به الشعوب في اليمن ومصر وغيرهما من وقوف واضح مشكور تجاه ذلك العدوان فأمر ليس بغريب. فما كانت الشعوب إلاّ مبرهنة على مواقف نبيلة تجاه القضية الفلسطينية وغيرها من قضايا أُمَّتها. والأمل بالله قويٌّ.