ليس غريبًا ولا مخيفًا ولا محزنًا، هذا الذي تشهده (مصر) هذه الأيام من انشقاقات وخلافات واختلافات.. حول صياغة دستورها (الجديد)، الذي يفترض أن يكون معبرًا عن الجمهورية المصريَّة (الثانية)..
وطموحات وتطلُّعات شباب ثورتها، الذين تنادوا في الخامس والعشرين من يناير.. عبر صفحات (كلنا خالد سعيد) شهيد الإسكندرية، و(شباب ستة أبريل) على (الفيس بوك والتويتر) لينطلقوا إلى (ميدان التحرير).. فيجدوا أمامهم شباب ورجال (كفاية)، الذين تصدوا مبكرًا لعنفوان نظام (مبارك) وقسوته، وتهليبه، واستخفافه و(توريثه) منذ عام 2005م.. ليلتف حولهم عشرات الآلاف ممن طحنهم نظامه فقرًا وحاجة وتفرقة، وإلى جانبهم مئات المئات من أصحاب الفكر والرأي والكلمة والأصوات الناصحة أو (الناقدة).. المهمشة جميعها، بعد أن استقر نظام (مبارك) ورجاله على معادلة: (نحن نفعل ما نشاء.. وليقولوا هم ما يشاءون)! إلى أن تهاوى النظام بـ(كله)، وانطوى.. ومرَّت بـ(مصر) كل هذه الأحداث والمشاهد.. المُروِّعة والرائعة والمعلمة للشعوب وللحكام بحد سواء طوال عامي 11 و12 بعد الألفين من الميلاد..!!
ولكن.. الغريب والمخيف والمحزن حقًا ألا تشهد مصر (العظيمة دائمًا) بتاريخها ورجالها وريادتها لأمتها العربيَّة هذه الانشقاقات والاختلافات والخلافات.. ويَتمُّ تسليم صياغة الدستور المصري الجديد بـ(ربطته) لتأسيسية الرئيس محمد مرسي و(إخوانيتها)، وأنصارها من سلفي حزب النور.. ليكتمل اختطاف (جماعة الإخوان) فـ(السلفيين) الذين انشقت الأرض عنهم لـ(ثورة الخامس والعشرين من يناير) الوطنيَّة المدنية.. لتصبح وكأنَّها ثورة (جماعة الإخوان) - وما أدراك ما الإخوان!! - وأنصارهم من (السلفيين) - وما أدراك ما السلفيين - الجدد!! الذين كشفهم مبكرًا مصرع طالب هندسة جامعة السويس على أيدي جماعة محتسبة منهم.. بحجة اختلائه مع خطيبته على الكورنيش(!!)، ليكون الدكتور مرسي - ساعتذاك - .. بحق، أبرع ساسة مصر بامتداد تاريخها الطويل وامتلائه بعظماء الساسة عبر أحقابها المختلفة، فكما تَمَّ له أو لـ(جماعته) اختطاف (الثورة).. تَمَّ له اختطاف (الرئاسة) بعد أن سمح له ولغيره خلل الإعلان الدستوري الثاني - الذي أصدره المجلس العسكري الأعلى في 30 مارس 2011م - بذلك، عندما أعطى الحق لِكُلِّ حزب له ولو (مقعد واحد) في البرلمان - الذي جرى انتخابه، ثمَّ حله - من أن يرشح أحد أعضائه لـ(رئاسة الجمهورية)! وهو خلل لا يصدر إلا عن عسكريين أو مَن في حكمهم.. ممن لا يفقهون في أبجديات العمل السياسي، لولا أن تَمَّ ضبط هذا (المعيار المضحك) بضرورة حصول (المرشح) على تأييد ثلاثين ألف مواطن من خمس عشرة محافظة، إلا أن ذلك كان أيسر اليسير على (الجماعة)!! وقد كان يمكن له ثالثة - لولا هذه المعارضة - أن يختطف (دستور مصر) الجديد عبر جماعته وأنصاره، ويكتبه وفق ما يريدون لـ(إقامة) دولة إخوانية بـ(كلها) وسلفية في بعضها.. لا يريدها حتَّى المتدينون المصريون!! لقد أدهشتني حقًا تلك الصورة (الفوتوغرافية) التي تناقلتها الصحافة العربيَّة عمَّا سُمِّي بـ(مليونية) المطالبة بـ(تطبيق الشريعة) يوم الجمعة ما قبل الماضي، وقد تصدرها حامل ميكروفون - محمولاً على الأعناق - يضع (عمامة) على رأسه، وقد ارتدى (صديريًا) تحته (شروال أفغاني).. حتَّى بدا لي إجمالي تلك (اللقطة الفوتوغرافية) وكأنَّها منقولة عن أحد ميادين (قندهار) إن كان بها ميادين.. وليس (ميدان التحرير) أول ميادين ثورة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعيَّة.. ثورة الخامس والعشرين من يناير!!
* * *
على أيّ حال، فقد بدأت أزمة (الجمعية التأسيسية) لصياغة دستور مصر الجديد.. مبكرًا.. ولكن دون أن يلحظها الكثيرون!! فبعد اثني عشر يومًا من تنصيب الدكتور محمد مرسي رئيسًا لمصر في الأول من أغسطس.. أصدر قراره - ربَّما الأول - بـ (إلغاء الإعلان الدستوري المكمل) الذي صدر عن المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة، الذي كان يعيق حركته كرئيس لمصر، أو حركة تطبيق أجندته (الإخوانية).. التي لما تظهر بِكلِّ فظاظتها بعد، وهو ما يعني - بداية ونهاية - نقل كامل صلاحيات المجلس العسكري التشريعية والتمثيلية إليه شخصيًا، ومع ذلك قُوبل قرار (الإلغاء) هذا بترحيب عفوي بريء من قِبَل جماهير المصريين.. باعتباره نقلة نوعية من حكم (العسكر) إلى الحكم (المدني)، بينما اعتبره إعلام الرئيس مرسي (الوليد)، ثورة داخل الثورة.. بعودة (العسكر) إلى ثكناتهم، ليطمئن الرئيس بعدها بتمام انتقال مفاصل الحكم ليديه وحده، فهو الرئيس: وتحته وزارة هو مشكلها، وإلى جانبه برلمان وشورى بأغلبية إسلاميَّة تؤيده، وجمعية تأسيسية لصياغة الدستور منهما.. لن تخرج عن طوعه ونهجه المبيت في صياغة دستور إخواني سلفي.. لا علاقة له بـ(الأزهر) ولا بوثيقته الوطنيَّة الوسطية.. الرائعة، ليفاجأ بحكم المحكمة الدستورية العليا بعدم شرعيَّة مجلس الشعب المنتخب بأكثريته الإسلاميَّة، وحله.. وحل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور منه.. بالتَّبعيّة، فكان أن رفض - بداية - قرار المحكمة.. بل ودعا رئيس مجلس الشعب (الإخواني) الدكتور سعد الكتاتني.. لاستئناف اجتماعات المجلس وعدم الانصياع إلى قرار المحكمة الدستورية العليا، ولكن سرعان ما تراجع عن ذلك.. بنصائح المخلصين من خارج (الجماعة).. درءًا لفضيحة سياسيَّة وطنيَّة كبرى، لا يصح أن تسجّلَ على تاريخ مصر.. بلد أول الدساتير العربيَّة ومحاكمها، حتَّى بدا.. وكأن الرئيس.. قد قبل بالهزيمة وامتثل للقضاء ومحكمته الدستورية العليا.. بل وهتف الهتافون إشادة بـ(احترام) الرئيس لـ(القضاء) واستقلاله، وامتثاله لـ(أحكامه) كأي مواطن مصري عادي، وأن رئاسته لـ(الجمهورية) أو انتمائه لـ(الجماعة) لم تحجبا عنه مسؤوليته الوطنيَّة.. في تأكيد معنى استقلالية القضاء والفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذيَّة والقضائيَّة)، بينما كان الر ئيس يغالب أو ربَّما يخفي ابتساماته.. لأنَّه يعلم بأن المادة الثالثة من قرار (إلغائه) للإعلان الدستوري الممل تعطيه الحق (إذا قام مانع يحول دون استكمال الجمعية التأسيسية لعملها.. شكل رئيس الجمهورية خلال 15 يومًا جمعية تأسيسية جديدة)، وقد قام المانع.. بقرار المحكمة الدستورية بـ(حل) مجلس الشعب، وحل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور بالتَّبعيّة، وهو ما يعطيه الحق في تشكيل جمعية تأسيسية جديدة.. وقد فعل ذلك بتشكيله (التأسيسية الجديدة) القائمة بـ(سبعة وخمسين) إسلاميًا، وثلاثة وأربعين من القوميين والمسيحيين واليساريين والليبراليين، المنادين بـ(الدَّوْلة الوطنيَّة الدستورية الديمقراطية الحديثة) التي جاء ذكرها في أول بنود (وثيقة الأزهر) التي وافق عليها واعتمدها مثقفو مصر (على اختلاف انتماءاتهم الفكريَّة والدينيَّة مع عدد من كبار العلماء والمفكرين في الأزهر الشريف) ومن بينهم الدكتور مرسي نفسه، إلا أنَّه جرى تهميشها.. عن قصد، كما جرى تهميش (الأزهر الشريف) نفسه.. من قبل الرئيس مرسي ومن أعضاء جمعيته التأسيسية بأغلبيتها الإسلاميَّة، لتشهد الجمعية التأسيسية الجديدة كل هذا التناحر، وكل هذه الانشقاقات والخلافات والاختلافات بين نصفيها: (الإسلامي) و(الليبرالي عمومًا) حول معظم موادَّ الدستور الجديد.. إن لم يكن حولها جميعًا، وبين المتعجلين في إصدار الدستور الجديد بـ(مسودته الثانية) دون إبطاء.. ومن يرون الإبطاء من دعاة تأسيس (الدَّوْلة الوطنيَّة الدستورية الديمقراطية الحديثة).. حتَّى تتم مناقشة هذه (المسودة) بأناة وتؤدة وصولاً إلى توافق وطني بين الأعضاء، حتَّى يمكن الخروج من هذه الجمعية (التي قدَّمت عشرات الطعونات ضد تشكيلها للمحكمة الدستورية العليا.. وهي تنتظر حكم المحكمة الإداريَّة التي أحيلت إليها) بـ(دستور) يليق بمصر وتاريخها الذي عرف الدساتير منذ (اللائحة الأساسيَّة للمجلس العالي) التي أصدرها محمد علي باشا عام 1825م التي أتبعها في يوليو من عام 1837 بما أسماه بقانون (السياستنامة).. وإلى أن صدر أعظمها في اقتسام السلطة (دستور 1923م) بعد ثورة 1919م.. فأكثرها وطنيَّة وعدلاً اجتماعيًّا كدستور عام 1964م المؤقت الذي أصدره الرئيس عبدالناصر، على أن خلف هذا التعجُّل في إصدار المسودة الثانية.. وكما هي، و(الإبطاء) الذي يقابله.. من قِبَل القوى المعارضة في الجمعية التأسيسية.! أسباب (خفية) غير معلنة.. أو مسكوت عنها، فالرئيس مرسي.. يخشى من أن يَتمَّ الوصول إلى تبني (مادة) في الدستور الجديد، تقضي بإجراء (اتخابات رئاسية) جديدة بعد الاستفتاء.. وليس بـ(إكمال) فترته كما يريد، وأعضاء الجمعية التأسيسية.. يخشون من حكم المحكمة الدستورية العليا بحلّ الجمعية التأسيسية الثانية بأغلبيتها الإسلاميَّة، والإتيان بجمعية متوازنة بين أطياف وأطراف المجتمع.. المصري، يفوت عليهم فرصة إصدار دستور.. أقرب إلى نهجهم الإخواني السلفي.. إن لم يمثله تمام التمثيل..!!
** *
ولكن.. وبعيدًا عن (قلق) الرئيس مرسي من عدم إكمال مدته، و(خوف) جمعيته التأسيسية من حلها بقرار من المحكمة الدستورية التي أعيدت إليها (الطعونات) من القضاء الإداري.. مؤخرًا، فإنَّ ما أثارته انشقاقات القوى المدنية والاختلافات والخلافات التي صعدتها.. كفيلة وحدها بإسقاط هذه الجمعية التأسيسية، وانهيارها.. بالتمام والكمال، ودون حكم قضائي، فماذا تفعل هذه الجمعية التأسيسية بـ(إصرارها) التعجُّل إذا استقال الثلاثون عضوًا (مدنيًا) منها، أو إذا امتنع القضاء المصري عن الإشراف على الاستفتاء على الدستور الجديد..؟!
ولذلك، فلا بُدَّ من أن يسود عقل العقلاء ومنطقهم.. في النهاية، ومصر العظيمة لا تشكو قلتهم.. بل ولا جمعيتها التأسيسية. فما المانع من إعادة أو (تعديل) تشكيل الجمعية التأسيسية لتكون أكثر تمثيلاً للمصريين.. كما قال الدكتور البرادعي عند لقائه الرئيس مرسي؟ وما المانع من تمديد فترة الانتهاء من وضع الدستور إلى ثلاثة أشهر - بدلاً من أسبوعين - كما يصرّ الجانب الإسلامي من الجمعية التأسيسية؟ وهو ما يعني مناقشة المادَّة الواحدة من موادَّ الدستور.. في دقيقتين(!!) كما قال الأستاذ أحمد خيري.. المتحدث باسم (حزب الأحرار المصريين)..!! وما المانع من أن يكون يوم الاستفتاء على الدستور الجديد.. هو الحادي عشر من فبراير.. بِكلِّ ما يعنيه هذا اليوم في ذاكرة شباب ثوار الخامس والعشرين من يناير..؟ وما المانع من الأخذ بالمتوافق عليه من (مقترحات) الثلاثين عضوًا الذين يهددون بالاستقالة من (التأسيسية) إذا لم تلب مطالبهم؟ وما المانع من ترك الموادَّ الخاصَّة بالقضاء وسلطاته.. لـ(القضاة) أنفسهم من خلال ناديهم أو جمعيتهم أو مجلسهم الأعلى؟ وما المانع من إضافة ثلاثة أو أربعة ممن يحسنون صياغة الموادَّ الدستورية - أو “ترزية” الدساتير.. كما كان يترَّدد -.. حتَّى لا يجد أحد سبيلاً لاتهامه بـ(الركاكة) في بلد المُثقَّفين والمبدعين والأدباء.. الذين علموا أُمَّتهم العربيَّة وكانوا مثلاً أعلى لها..!
إن الذي يسبق خطوات.. كهذه، هو أن ينزع إسلاميو (التأسيسية) المتشددون من عقولهم وقلوبهم أفكار التربص والترصَّد و(الاقتناص).. لما يسمونه بـ(فرصتهم) الذهبية لإعادة تشكيل مصر من خلال دستورها الجديد الذي بين أيديهم.. متناسين أن (مصر).. ليست لهم وحدهم، كما أنها ليست لليبراليين - أو المدنيين - .. وحدهم، ولكنَّها لِكُلِّ أبناء شعبها بأطيافهم وألوانهم ومعتقداتهم المُتعدِّدة، وهي بـ(الدور) و(التاريخ) و(الحضارة) و(الثَّقافة).. ملك لملايين العرب الذين أحبوها، وحزنوا لحزنها.. وفرحوا لفرحها.
dar.almarsaa@hotmail.comجدة