ودائع الناس من النقود عند البنوك مجمدة بلا فوائد، هي من حقوقهم التي امتنعوا عنها بسبب الفتوى القديمة القائلة بربوية النقد الحديث. ونتيجة لامتناع المودعين عن أخذ الفوائد على ودائعهم، أصبحت كلفة البنوك شبه مجانية على بضاعتها التي تبيعها، وهي النقد المودع عندها من الناس. ولعدم كلفة حصول البنوك على بضاعتها التي تبيعها -وهو النقد-استطاعت البنوك احتكار النقد وعدم استثماره في المجتمع (كما هو حاصل في أمريكا اليوم بسبب نزول الفائدة إلى مستويات صفرية). وبعدم دفع البنوك الفوائد على الودائع -للفتوى بربويتها-، تحققت الاحتكارية التي هي معكوس حكمة جريان الربا في الأصناف الستة.
والترتيب الصحيح في النظر في المسائل الفقهية، أن أبدأ بالتأصيل الشرعي ثم أعرج على الحكمة والواقع. وقد عكست الأمر لتخفيف فطرة الممانعة الإنسانية التي تستنكر كل غريب عليها. فالمسلم يُحكم الدليل الشرعي الثابت وينزله على المستجدات بعلل منضبطة في بحثه عن الحُكم، ويسلم لأمر ربه فلا يقول إلا «سمعنا وأطعنا»، فإن بانت له الحكمة فهي من عاجل البشرى، وإن لم تبن له فالله أعلم وأحكم..
فالفتوى المشهورة بأن فوائد الودائع البنكية هي من الربا المحرم كان له جانب من الصحة قديما بسبب ارتباط النقد بالذهب عند صدور الفتوى وبسبب عدم تصور ديناميكية عمل الودائع البنكية في الاقتصاد الحديث ومحاولة تكييف الوديعة البنكية بإلحاقها بأحد المعاملات الاقتصادية قديما.
فتحريم فوائد الودائع البنكية قول قديم مستنبط على أساسين اثنين: الأساس الأول هو قياس النقد الحديث على الذهب والفضة بعلة إطلاق الثمنية، وهذا القياس لي فيه وجهة نظر لأن الذهب والفضة لم يعودا ثمنين، فهو قياس فرع على أصل بعلة غير موجودة في الأصل.
والأساس الثاني هو تكييف الوديعة البنكية الحديثة بإلحاقها بالوديعة الشرعية بقياس الشبه اللفظي، أو بتكييفها على أنها قرض بقياس الشبه الجزئي.
وتكييفها بالقرض معناه كما أرى أن المودع يقرض البنك، أي عكس التمويل البنكي الذي كُييف بأنه قرض لمجرد تشبهه جزئيا بصورته في جانب المثلية التي تغلب على القرض وليست شرطا له (أي مال بمثله).
وقياس الشبه (كما قال بن القيم) لم يرد إلا مذموما في القرآن، كقوله تعالى {قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}.
وكقياس الكفار أنفسهم على رسل الله وأنبياءه فقالوا {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}، فأخذوا بالشبه وهذا في رأيي خطأ، فالعلة هي كونهم عليهم السلام انبياء ورسلا لا في كونهم بشرا، وهذه العلة قاصرة عليهم لا تنسحب على كل بشر.
والوديعة الشرعية هي كالقرض (في مصطلحه الشرعي)، تدخل شرعا تحت التبادلات التي يطلب فيها الإرفاق والإحسان، ولا أحد يتصور أن المودعين يرجون الإحسان والإرفاق في البنوك، ولا يتصور أن البنوك تتوسل بالرحمة والإرفاق في قلوب المودعين ليودعوا عندها.
ولن استرسل في نقد الاحتجاج بقول الزبير للمودعين اجعلوها قروضا.
فالزبير رضي الله عنه كان هو المحسن إليهم لا العكس فكيف تكون قرضا بالمفهوم الشرعي أو بالفطرة الإنسانية؟ انما هي لفظ ولغة وعبارة تُفهم في سياقها -كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} لأنهم كانوا آنذاك على الفطرة الصحيحة لم تختلط عليهم المفاهيم في باب التبادلات المالية التي اختلطت على المتأخرين من فقهاء المذاهب في القرون الوسطى للفقه الإسلامي.
بدليل أن بعض الروايات جاءت عن الرسول عليه السلام بلفظ «استقرض رسول الله البعير بالعيرين» وهكذا ينقلها شيخ الإسلام بن تيمية بلفظ القرض، لأنه لا يتصور رحمه الله أن يأتي من لا يفرق بين البيع والقرض.
فلذا ترى النقولات في الفقه وفي كلام بن تيمية تتنقل بين ربا القرض وربا البيع دون أي تنبيه للقارئ، فاختلط كثير من أقواله على من جاء بعده، ثم تعاظم الخلط على المعاصرين بسبب تشديد الفقهاء على البنوك وبسبب تغير حقيقة الاقتصاد الحديث ومفاهيمه. فالوديعة البنكية ليست كالوديعة الشرعية، لأنها من قياس الشبه الفاسد - هكذا أرى-.
وهناك ردود كثيرة من المعارضين، وفيها كفاية، لكنهم عادوا فقالوا إن الوديعة البنكية قرض لحديث الزبير المشار إليه سابقا. فهم بذلك كمن يستدل بلفظ «استقرض رسول الله البعير بالعيرين» على جواز الفضل والنسأ في القرض.
الوديعة البنكية ما هي إلا معكوس التمويلات البنكية، فإن كانت الفوائد على التمويلات من الربا المحرم، كانت الفوائد على الودائع البنكية من الربا المحرم كما ظهر لي من قراءاتي. فكيف يشبه النقد أو يُبدل لاشتراكه بصفة أو مهمة منتفية عنه لا يتصف ولا يقوم بها الأصل (الذهب والفضة) رغم وجوده وفي نفس المكانة ويقوم بنفس المهام إلا المهمة والصفة التي هي وجه الشبه أو البدل -أي الثمنية المطلقة-.
ولو صح قياس النقد على الذهب بشبه أو بدل أو إحلال لكان من الأولى قياس زكاة الطائرات والسيارات على زكاة الإبل لأن مهمتها الغالبة عليها دون الأنعام الأخرى هي قوله تعالى «وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس» وهذه المهمة في الطائرة والسيارة أقوى وأوضح.
والإبل لم تعد تقوم بهذه المهمة وحل محلها الطائرة والسيارة، لذا فهل تأخذ حكم زكاتها بعلة مطلق حمل الناس وأثقالهم فيقال في كل خمس طائرات كبيرة يخرج طائرة صغيرة زكاة لها. هذا قياس غير صحيح، ولو كان غرض صاحبه هو من أجل تحقيق مطلب شرعي وهو الزكاة، فكيف بقياس النقد على الذهب وغرضه هو من أجل تحقيق الربا؟ فهل الربا مطلب شرعي يلزم تحقيق وجوده في اقتصاديات الناس؟ أم هو من المنهيات التي إن لم توجد أو خفت فهذا من رحمة الله وفضله.
فالذهب والفضة موجودان ويقومان بكل وظائفهما القديمة من الحلي والصناعات المهمة والتجارة بهما، ثم يُقاس النقد الحديث عليهما بصفة ليست فيهما وهم موجودان اليوم وبنفس مكانتهما العالية بالأمس؟ فهل يصح قياس بعلة ليست موجوده في الأصل؟ أم يصح تشبيه بشبه ليس موجودا في المشبه منه أو بدل ليس موجودا في المُبدل منه أو يصح إحلال في محل شيء موجود اليوم في القيام بمهمة لم يعد قائما بها اليوم.
لا يصح ذلك كله إلا إذا قيل أن نصى الرسول على الذهب والفضة في حديث الأصناف الستة هو الثمن بالثمن، فيصبح الذهب والفضة كالحديد والألماس لا يجري فيهما الربا. عندما جاء قياس الشبه مذموما في القرآن -والبدل والإحلال أصله التشبيه- فهو من أجل تعليم الأمة الأمية، أمة محمد -عليه السلام-، الطرق الصحيحة لاستنباط الأحكام الشرعية من أصول النقول الشرعية الثابتة. وقياس الاقتصاد اليوم على اقتصاد ما قبل 40 عاما فقط، هو من قياس الشبه اللفظي. فكل شيء تقريبا في اقتصاد اليوم قد تغيرت حقيقته
(فكيف يقاس على تفصيلات اقتصاد من عشرات القرون).
ونحن نتطلع إلى فتوى من سماحة الشيخ الوالد مفتي المملكة الشيخ العالم عبدالعزيز آل الشيخ لحسم هذا الموضوع الذي هو حديث الناس.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem