مازال العالم يعيش تبعات أسوأ أزمة اقتصادية منذ ثمانين سنة.
وحيث إن الأزمة وتبعاتها لم تنته بعد ومازال من الصعب التكهن بمدى آثارها وعمق انعكاساتها على الاقتصاد العالمي..
إلا أنها زعزعت الثقة في النظم المالية للدول المتقدمة والنامية على حد سواء، وأظهرت على السطح خللا كبيرا على مستوى رقابة وتنظيم المؤسسات المالية.
ومع ذلك بقي تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على الدول العربية أقل نسبيا بالمقارنة مع مناطق أخرى في العالم، ويرجع الأثر المحدود نسبيا للأزمة على الدول العربية إلى عدة عوامل.
يتعلق العامل الأول بالاندماج المحدود للدول العربية في الاقتصاد العالمي من حيث التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي المباشر، وإلى ضعف درجات الارتباط بين المصارف والأسواق والمؤسسات المالية العربية ببقية المصارف، والأسواق العالمية.
لذلك كله كان تأثر الدول العربية جراء الأزمة أقل نسبيا من تأثر بعض الدول والأسواق الناشئة في آسيا، التي تعتمد اقتصاداتها على الخارج من حيث صادرات السلع والخدمات والاستثمارات الأجنبية المباشرة والاستثمارات في المحافظ المالية، إلا أن الدول العربية تبقى غير جاذبة للاستثمار الأجنبي المباشر مقارنة بالكثير من الدول النامية مثل دول جنوب شرق آسيا ودول أمريكيا اللاتينية.
فنصيب الدول العربية من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر على مستوى العالم لم يتجاوز 4.0 في المائة.
ورغم إمكانية استيعاب الدول العربية آثار الأزمة العالمية، فإن هذه الأزمة زادت من صعوبة التحديات التنموية القائمة والتي يمكن لهذه الدول التغلب عليها من خلال خططها وبرامجها الإنمائية والإصلاحية.
إن إدارة الخروج من الوضع الحالي الذي خلفته تلك الأزمة، يجب أن تكون في إطار مواجهة التحديات التنموية بعيدة المدى للدول العربية.
ولعل من ابرز هذه التحديات هو تحقيق معدلات نمو عالية ومستديمة، ويكمن لب العلاج في التعليم.
فالتعليم وإرساء مجتمع المعرفة هما المفتاح لغد أفضل، لكن وضع الدول العربية، رغم الإنفاق الهائل في هذين المجالين، مازال متواضعا حيث إن متوسط سنوات التمدرس في قوة العمل العربية والبالغ حوالي 5 سنوات، هو نصف سنوات تمدرس القوة العاملة في بلد مثل كوريا الجنوبية، ونوعية التعليم هي أقل من المتوسط العالمي بدلالة نتائج تلاميذنا في المناظرات الدولية في العلوم والرياضيات.
كما أن وضعية البحث والتطوير تحتاج إلى تحسين، حيث ننفق كمجموعة وكنسبة من الناتج المحلي الإجمالي عشر ما تنفقه الدول المتقدمة.
هذا فضلا عن تركز البحوث والتطوير في مجالات تقليدية قليلة الارتباط بالقطاع الإنتاجي ولا تحقق ميزات تنافسية جديدة في الأسواق الدولية.
وهناك أزمة أخرى مترابطة مع الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالعالم، وهي الأزمة الثقافية والدينية.
فما يهدد العالم الحديث فضلا عن الأزمات المالية وعلل الاقتصاد الوهمي العالمي يتمثل في الأزمة الثقافية والدينية.
إن هذه الأزمة لخطر يحدق ببقاء الحضارات التي ترتكز على أسس دينية.
لهذا السبب يجب أن يصبو تحالف الحضارات ولاسيما بين أكبر ديانتين موحدتين إلى تحقيق هدف ملموس يتجلى في شن معركة من أجل القيم الدينية.
فالأزمة الثقافية والأخلاقية هي الأزمة التي تهدد أمن العالم الحديث.
إنها أزمة تحدق بالحضارات المرتبطة بشكل وثيق بكل ما هو روحي وبمعنى آخر مرتبطة بالدين.
إن النتيجة الأولى التي أعقبت الأزمة المالية كما يقول احد الباحثين الفرنسيين والتي تسارعت أحداثها منذ شهر سبتمبر 2007 والناجمة عن أزمة القروض المندلعة في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تفشت في دول أخرى بسبب تفاعل الاقتصاديات فيما بينها، تتمثل في إظهار أن الإيديولوجية التحررية لا تستطيع أن تقاوم المجازفات التي تنجم عنها.
ومن ثم انهارت جميع مبادئ الشمولية أو العولمة السعيدة.
وشرب من كأس الأسى كل من كان فيما مضى يمدح الإيديولوجية التي تنادي بتراجع الدولة، وصار هو أول من يطالب بإلحاح بتدخلها لإيجاد حل لهذا التدهور الذي أثاره نظامهم وممارساتهم وعجز مؤسساتهم على غرار صندوق النقد الدولي للعب دور الضابط.
فالخطر الذي يحدق بنا ليس صداما غير محتمل للحضارات ولكنه زوال هذه الحضارات نفسها.
ولذا فإن المواجهة ليست بين الديانة الإسلامية والغرب الذي لطالما أمسى أقل تشبثا بالديانة المسيحية حيث أضمرت الحضارات بأوروبا وأمريكا الشمالية الإجلال للتطور المادي وللمبدأ النفعي مزيحة كل أخلاق روحية.
ولهذا يدعو الكثير من الباحثين الغربيين اليوم إلى أن يعود الناس إلى القيم الدينية وذلك بالنظر إلى الانحرافات الهائلة التي قادت إليها الإيديولوجيات العلمانية المستبدة والأنظمة الإمبريالية وخيبة النظام الاستهلاكي الليبرالي.
ينبغي إذن أن نشيد تحالفا لكي نقود المعركة الكبرى لفائدة القيم الدينية بشكل يجعل عالم الغد لا تطاله المادية العدمية التي تمزج بين التطور التقني والتقدم الأخلاقي، ولا أن تطاله عبادة الفرد.
وفي هذا الصدد، لا يجب أن ننظر إلى الفردانية على كونها تتم ترجمتها عبر تصور فرد في حالة عصيان ضد الإنسانية والمجتمع، فرد ضيق التفكير، معزول لا يحكمه إيمان ولا قانون، تائه بسبب رفاهية تافهة (حسب وحدة باسكال لقياس الضغط).
ولله در المفكر المغربي أحمد العبادي أمين عام الرابطة المحمدية لعلماء المغرب عندما دعا إلى فتح الأبواب على الواقع كما هو، لنتمكن من إدراكه على ما هو عليه، لنكون أقدر على تصيير ذلك الواقع الذي نحلم به، فكلنا نحلم بالتسامح وبالجمال وبأن تكون البشرية متعاونة على البر والتقوى فوق هذا الكوكب، ولكن الواقع يثبت أن ثمة سوابق معرفية وبرديغمات تؤطر الأذهان، ومن خلال هذا التأطير توجه الواقع وسلوك الإنسان.
وبالتالي فإنه لابد من فتح هذه المنطقة ودخولها لاستكشافها وتنقيتها وإعادة ترتيبها؛ وهي عدة أمور لا يمكن تصور تحققها بدون اعتماد مستلزماتها ومقتضياتها، وفي طليعتها الأساس المعرفي البحثي العلمي:
1) فتح رمانة المعتقدات والتصورات والسوابق المعرفية والبرديغمات، والقيم والمعايير، لا يمكن بدون ركوب مركب المعارف المساعدة، والتشمير للقيام بالبحث العلمي اللازم بالمناهج الملائمة 2) كما لا يمكن تصور دخول هذه المجالات المركبة دون الاستثمار الزمني والنفسي والذهني والمادي الملائم، إذ هو دخول لا يمكن أن يتم دون التعاطي الميداني التفاعلي المباشر مع أهل ومكونات الحضارات المختلفة.
3) كما لا يمكن تصور القيام بتنقية، دون امتلاك ناصية المعرفة الدقيقة بالأصول والمنطلقات، إذ لا تعدو التنقية في نهاية المطاف تصفية الأمور مما يشوبها عبر الزمن وردها إلى أصول نشأتها الأولى دون تمحل ولا تكل.
4) أما إعادة الترتيب، فلا يجوز أن تكون خارج الثوابت تنصيصا وتقصيدا في مراعاة تامة للواقع وتطلباته، واعتبارا لمختلف المآلات التي قد تنجم عن هذا الترتيب أو ذاك.
والمحافل المعرفية التعارفية هي المحافل الأكثر نذرة، إنها المحافل التي تريد أن تستفيد من الحكمة أينما كانت؛ إذ الحكمة ضالة الباحث المحاور فأينما وجدها فهو أحق الناس بها.
ونحن لا نتحدث هنا عن النص أو عن العلاقة الإيمانية به ولا عن تصديقه أو هيمنته، وإنما نتحدث عن الحكمة التي تبلورت من خلال التعامل مع النصوص في كل الديانات.
فالنموذج التعارفي إذن هو أكثر قابلية للتعاطي والإثراء الإيجابيين.
وهو نموذج نجد التعبير عنه والتوجيه إليه بصيغ متعددة ومختلفة في جل الديانات، ومن أجلى التعبيرات عنه ما نجده في القرآن الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.