قال أبو عبدالرحمن: ما كتبته وما أكتبه ههنا لَفْتةٌ للأمة قيادةً ورعيَّـةً مِن أجل خلع جلباب (الجبن السياسي) تجاه طائفة لها حق المواطنة غير منقوص بمقتضى هُوُيَّتنا التاريخية الكريمة التي باركها- مُصادَفة لا قَصْداً - النظام الدولي العام الذي كان تدوينه أكرم وأزكى من سوء تطبيقه بثعلبية الأهواء السياسة..
.. وحق المواطنة للطائفة الشاذَّة عن جمهور الأمة في هويتها التاريخية، وفي أبجديات النظام الدولي مشروطٌ بأن يكون الولاء للوطن الذي تقوم دولته ورعيته بالوفاء بحقوق المواطنة، وبأن لا يكون ولاؤهم للأجنبي، وبأن لا يؤذوا حرية الجمهور، وبأن لا يكون لهم عمل ظلامي للإفساد في الأرض.. ولا ريب بحمد الله أن دولتنا الكريمة على علم وحذر بما تُبيِّنه الطائفة المفسدة من عمل ظلامي، ودعمٍ أجنبي مِن ثماره غير المباركة أن تكون معابدهم الوثنية ترسانة أسلحة، وأن يتفرقوا في غير وَكْرِهم؛ ويُسمُّوا أولادهم بأسماء صحابة يكرهونهم من أجل التلبيس؛ فيمتلكوا القصور المُعَدَّة ترسانات أيضاً، ويكون الصعلوك الذي لا يملك شيئاً يملك البيوت الغالية الثمن بسيولة من الخارج؛ ومِن ثَمَّ يواجهون أمة الوطن التي تقوم بحقوقهم بالاستفزاز في منابر الإعلام ولاسيما الإنترنت، ويظهرون الوجه القبيح الذي كانوا يخفونه بعقيدة (التَّقيَّة) بعد أن خُيِّل إليهم أنهم تحرروا منها بطفرة قوة طارئة محدودة الأجل، وتحالفٍ طائفي أجنبي لن يقهر الأمة التي تُصِرُّ على التمسُّك بهويتها بعد أن انبلج نور الوعي لأدنى الأمة سذاجة؛ ولهذا فذلك التحالف الطائفي الأجنبي الطارئ يلفظ أنفاسه الأخيرة.. ومن أبسط ظواهر هذا الوعي نُصُوعُ الحقيقة أمام المغبونين سابقاً في وعيهم؛ فقد تذكَّروا أن تلك الصواريخ البدائية التي تهبط في فضاء من أقصى الشمال الغربي من الأرض المحتلة؛ فلم يحدث من جَرَّائها أيُّ خسارة في الأرواح، ولم تهدم كوخاً واحداً: كانت باتفاق مُسْبَق مع المُحْتَلِّ، وأن الهدف من هذا الاتفاق أمران: أولهما تحقيق مكسب دعائي عاجل للطائفية الحليفة؛ ليتَّخذها أهل البلاد العربية والإسلامية وليجة؛ فيكون راعي همها أشدَّ الناس عداوة لها.. وثانيهما تحقيق الرَّد السريع من الدولة المحتلة لتدمِّر معاقل المسلمين في الشرق، وأما الطائفية في الجنوب التي أطلقت الصواريخ التي تأتيها من الشرق ومن الشمال الشرقي فلم يُصِبْ منهم العدوُّ المحتل نفساً واحدة، ولم يهدم لهم داراً، وهو قادر بقوته العسكرية الغاشمة المدعومة بأحدث تقنية أن يمسحهم مسحاً.. وتتباكى الطائفية المجرمة بأن المسلمين والعرب لم يدعموها؛ ولهذا وقع في الفخ بعض الحركيين، وبعض فئات مقاومة المحتل.. مع أنه لم يحصل الاتفاق على هدف كريم، وتخطيط يختار الدفاع العسكري أو الجهد السياسي حسب القدرة.. وبعد انكشاف الغطء أخذ العقلاء يتذكَّرون بواعث ونتائج إطلاق الصواريخ التي قد تُرَوِّع بصوتها وحسب.. وتذكَّروا أن هذه الطائفية هي التي تُصدِّر إلى معقل العرب والمسلمين (المملكة العربية السعودية) المُخدرات والأسلحة والمتفجرات، وهي التي تثير شَغَب الأقلية، وتدرِّبها، وترسل لها الأسلحة والمال؛ لتخون حق المواطنة، ولتعيث في الأرض فساداً.. وتبصَّر علماء العصر؛ فعلموا أن العقيدة الإلحادية والفقه الإباحي لدى الطائفية لن يُنْتج إلا الولاء للأجنبي والتحالف معه، ولن ينتج إلا نفاقهم الأمة: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14) اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(15) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ(16) (سورة البقرة 14 - 16).. وأما مَقُولة عبدالناصر (اتحاد الصف قبل اتحاد الهدف) التي علَّق عليها عبدالناصر الأمل بأنَّ رَمْيَ إسرائيل في البحر لن يكون إلا من خلال تدمير الرياض وعَمَّان: فقد أسلفت أن الحركيين أدخلوا عليها تعديلاً ساذَجاً، وهو (نعمل فيما اتفقنا عليه، ويعذر كل واحد منا الآخر فيما اختلف فيه)، وهي كلمة حسن البناء رحمه الله، ولا أظن به إلا الخير، وأنه أراد أهل القبلة ذوي المِلَّة الواحدة، ولكن أكثر الحركيين بعده وسَّعوا جانب (وليعذر كل واحد منا الآخر)؛ فأدخلوا في ذلك مَن هو خارج الملة من الطائفيين كائدي الأمة: تاريخياً، وعقيدة إلحادية، وفقهاً إباحيّاً (وكلاهما وضع بشري).. وتسامحوا مع عابدي القبور ووثنيي الصوفية.. على أن الشيخين حسن الهضيبي وعبدالقادر عودة رحمهما الله تعالى كانا على حذرٍ شديد من هذا التوسُّع؛ فالعذر - مع بقاء الحوار الدعوي السلمي العاقل، وتضرُّع كل فريق إلى ربه بأن يُرِيه الحق حقاً ويرزقه اتباعه، وأن يريه الباطل باطلاً ويرزقه اجتنابه -: إنما يكون بين أهل القبلة من أهل الحديث والأشعرية والماتريدية والمرجئة والمعتزلة ممن لم يُعْرَف بزندقة، ولم يجمع بين مذهبي الاعتزال والطائفية؛ فهؤلاء كانوا صفاً واحداً في تاريخنا أمام الأخطار منذ بُليت الأمة بتعدُّد النحل لا الملل.. وأما اختلاف الفقهاء الأربعة وغيرهم من المسلمين في المسائل العملية (الفروع) فلا يحل لملم أن يجعله عاملَ فِرقة.
قال أبو عبدالرحمن: أُحِسُّ بطمأنينة وفأل كريم من التحام الشعب المصري مع قائده محمد مرسي - على الرغم مما يعانيه من ضغوط الأغيار - وباعث هذا الفأل أمران:
أولهما: أن القائد محمد مرسي نَفَذَ بوعيه من الأغوار؛ ليعيد للأمة هُوِيَّتها التاريخية مع حذرٍمن كيد الطائفية كما هو بيِّن من تصريحاته وممارسته.. وثانيهما: أن الشعب المصري وكافة الشعوب العربية والإسلامية (جمهوراً، لا تعدُّديةً مزروعة) لا تُريد استئناف تجرِبة جديدة من التجارِب المحترقة، ولا من اقتراح تجارِب تضليلية، بل تريد هويتها التاريخية وحسب.. ولقد استقرأ الإمام ابن تيمية من التاريخ أنَّ ثِقَل المسلمين في الأزمات التي مرَّت بالأمة كان في الشام ومصر، ونسي رحمه الله بقية الثِّقل في بلاد الحرمين الشريفين عندما كان شهاب الدين بن حجي زعيم آل مرا من قادة الحلف العربي الكريم الذي نصر الله به الأمة.. ثم استجدَّت وِحدة عربية بشرطها الإسلامي على يد محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب رحمهم الله جميعاً لم تكن في التاريخ قبل ذلك قط.. هذا مع النصوص الشرعية الصحيحة عن كون الإيمان يَأْرِز إلى بلاد الحرمين الشريفين، ونص الحديث: ((إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها)) بمعنى يجتمع ويجتمع عليه أهله، وفي النصوص الأخرى أنهم مع أهل الشام يَدٌ واحدة، وفي الحديث الآخر المتواترأن الطائفة المنصورة في الغرب، وذلك هو الحجاز والشام ومصر، وأن الشرَّ من عراق العجم وعراق العرب، والأخير هو وكر الطائفية منذ آخر عهد (البابِ دون الفتنة) عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو السوادُ المُعَبَّر عنه عُرفاً بالنَّجْدِ الأسفل.. ومن الوعي السياسي غير الجبان أن تدرك جماهير الأمة العربية والإسلامية التي تريد استرداد هُوِيَّتها أنَّ تجرِبة الوحدة السعودية الكريمة في زمان التجزئة العربية هي مَعْلَمُها ورائدها مع قَبول الوحدة السعودية العربية كل نور يفد من الأشقاء لتزكية تجربتها؛ وذلك لخصوصيات في تلك الوحدة هي المطمح الأول لتلك الشعوب.. ومن تلك الخصائص أن الدين لم ينفصل عن السياسة قط، وأن الدين لم ينفصل عن عَلَنِ الحياة العامة بالله ثم بوازعي القرآن والسلطان، وما نتج عنهما من وازع (الحياء الاجتماعي)، وأن التعددية الطارئة خلال عقدين في تراجع سريع؛ لأنهم أبناء الفطرة الذين عاشوا في نعمة الإسلام؛ ولهذه الخصوصية فليس في نظام التجرِبة السعودية (من منطلق نصوص الشرع) منح الرَّعَوِيَّة السعودية غيرَ أبناء الملة، وأن عَلَمَها المتميِّز بالشهادتين لا يُنكَّس في الأحزان، وأنه لا يصدر - لا بمرسوم، ولا بنظام، ولابتعليمات إدارية - استباحةُ مُحَرَّم.. ومن تلك الخصوصية صِدقُ الانتماء؛ فلم تُطبِّع علاقاتها مع إسرائيل، ولم تتوانَ في دعم الهمِّ العربي الإسلامي حكومة وشعباً.. ومن خصوصيتها (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ودُور تحفيظ القرآن، وحِلَق العلماء في المساجد والدُّور، مع الدعم المالي التشجيعي من الدولة والرعية.. وكل مَضيقٍ يُرْهِقُها من ضغوط كونية دُوَلِيَّة، وتعتور مسيرتنا: فهي قصور لا تقصير.. وهذا القصور زائل بحول الله وقوته لا محالة باتحاد الوعي العربي الإسلامي ابتداءً بالنهضة المصرية، ويبقى النقص فينا نحن معشر الرعية إذا لم يبرز مِنَّا علماء: مفكرون، صادقون، ذوو ولاء لدينهم ودولتهم، يأسرون القلوب ببيان العُقْبَى الوخيمة لكل تعدُّدية كريهة، ويحتضنون شباب أمتهم بمحبة وكرم وشفاعة وتودُّدٍ ومؤانسة لهم في ثقافتهم وأدبياتهم المباحة، و يقبلون منهم الاستجابة في الجذور، ويقنعون باليسير اليسير على التدريج من آداب الشريعة ونوافلها، ويكونون محاورين غير مُتَنَفِّذين ولا مستبدِين برأيهم، ويكونون مصغين قبل أن يكونوا متحدِّثين.. وأن يعترفوا بالنِّدِّيَّة أو ما دونها فيما ليس لهم به علمٌ تخصُّصي في منابع ثقافية أخرى تَمَسُّ الكيانَ كالوعي بالتاريخ المعاصر الذي يدخل في عموم مصطلح (السياسة)، وكأعباء الألسنية التي تتدخَّل في تفسير نصوص الشريعة، فيكون العلماء الربانيون تلاميذَ لشبابهم في هذه المنابع حتى يفهموها، ثم بعد الفهم وصحة التصوُّر يعترفون لهم بما هو حق واجب أو مباح، ويترفَّقون معهم في بيان ما هو محذور خطِرٌ؛ ولهذا يكون كلا الفريقين مُكَمِّلاً نقص الآخر.. والعقبى وخيمة إذا لم تحتضن الدولة ثم العلماء الشاردَ من أبناء الفطرة على جميع النحو الذي أسلفته.. ولقد أسلفت همومنا على مستوى استهدافنا فكرياً، وأما من جهة تدميرنا سلوكياً فأخطر ما يواجهنا أمران لم أَرَ للمجتمع فيهما دوراً يسانِد مسؤولية الدولة مسؤوليةً علمية إبلاغية: الأمر الأول تحطيمنا بالمخدرات؛ لأن زعماء الحارات، وأهل الصف الأول في المساجد مُهْمِلون تَفَقُّد الفساد في الزوايا التي كانت مظلمة في الحارة، ثم أصبحت مكشوفة.. ويكون التعاون مع أسرة المُبْتَلى، والتعاون مع الدولة في استرداد كرامته بالعلاج الصحي الذي لا تزال الدولة في توسعة منشآته.. مع الإبلاغ عن مكامن الترويج.. والأمر الثاني استسهال البدعة، وعدم مراقبتها، والدعوإلى التخلُّص منها بالتي هي أحسن، وإبلاغ الحجة من قبل العلماء وولاة الأمر؛ ليباشروا حماية المجتمع؛ فالإرهاب الذي دمَّر بلادنا كان منشؤه استسهال البدعة في الدين، وقد علمتُ من الشباب أن جماعة ما في مسجدٍ ما إذا سلَّم الإمام قامت صفاً واحداً تتلو القرآن جماعياً بصوت واحد؛ وهناك في بلد ما من لا يزال يكفِّر العلماء الربانيين من أمثال سماحة الشيخ ابن باز وأقرانه الفضلاء كابن حميد وابن عثيمين رحمهم الله تعالى؛ فإذا كان هذان الأمران لم يُكتَشَفا بعد؛ فهنالك أمر علني نسمعه في بعض إذاعاتنا المحلية قُبَيل الصلوات وقبيل إفطار الصائم من أدعية بالأناشيد، والتباكي المثير للغثيان؛ فمتى كان الدعاء الذي هو من أنفس العبادات للرب جل جلاله يكون بالألحان والأناشيد تقليداً للنواقيس؟!!.. إن أمر هذه الأمة بعد الاستعداد الفكري والعلمي الذي يُـحَقِّق القوة وضرورات الحياة لا مُتَعَها المترفة التي تباع بأبخس الأثمان: لن يصلح إلا بما كان عليه سلفها منذ نشوء هُوِيَّتها التاريخية، وكلما أصبحتْ بدعةٌ إلفاً بلا إنكار ودعوة حصيفة، فستتلوها بدعة أشنع.. وهكذا حتى تنسلخ عن هويتها كما حصل للدولة العثمانية عند أُفول نجمها.. والملاحظ في استقامة تاريخنا أنه كان على منهج التَّلَقِّي الأمين من صحيح النص وصريحه ونور العقل في الاستنباط، وأن تأرجُحَهُ صعوداً وهبوطاً: آت من الأغيار المُنْدَسِّين في المجتمع نفاقاً من أهل الملل والشعوبيِّين، وباغترارِ بعض الرموز بِحِيلِ التضليل التي هي: الافتراءُ على اللغة في فهم النص الشرعي، وصرف ما هو صحيح عن صريح دلالته، وإسقاطُ ما في العقل من برهان، وافتراء شبهٍ عليه ليست من براهينه.. اللهم أَصْحِبْنا وأصْحِبْ جميع أمتنا الإسلامية السلامة، وهداية الإعانة بعد أن تُبَلِّغنا هدايةَ بالبيان الواضح، والله المستعان.