أتذكر ذلك اليوم الذي عاش فيه أبناء الرياض حدثا غير عادي؛ كان عام 1404هـ، الموافق 1983م، حين افتتح مطار الملك خالد الدولي؛ فاتجهتُ أحمل مسجل الإذاعة لأجري لقاءات مع المواطنين كعادة برنامج «ريبورتاج»، كان الازدحام شديداً في عصر ذلك اليوم المعتدل من أيام الربيع، فما وجدت السيارات القادمة من الرياض فرصة لكي تتقدم في مواكب حاشدة زاحفة إلى قرب الصالات والجامع الكبير، والحق أن الناس كانوا يستثقلون الذهاب إلى هذا المطار قديماً ويعدونه سفراً؛ نظراً لبعد المسافة بين وسط المدينة وحتى أحيائها الجديدة الناشئة في الشمال -آنذاك- كالعليا أو السليمانية؛ كان زوار مطار الملك خالد -كما سجلت من انطباعات- مبهورين من فن العمارة الدقيق المتناسق في الجامع الكبير، ومن ارتفاع سقف الصالات واتساعها، ومن رخامها الأبيض المموج، ومن حيطانها الرخامية المتداخلة بأطياف البيج مع الأبيض، ولم يغب عن بال كثيرين ممن التقيتهم فارق الموازنة بين مطار الرياض القديم الصغير المتواضع الذي أصبح في وسط المدينة حين زحفت الأحياء إليه وهذا المطار البعيد المتنائي بفخامته واتساعه وامتداد أراضيه وتعدد صالاته وارتفاع مبانيه وحداثة أجهزته!
كان ذلك قبل ثلاثين عاماً؛ انتقل العالم خلالها إلى آفاق جديدة ومنجزات مذهلة، وبسرعة شديدة تعادل إنجازات الإنسان العلمية والتقنية خلال قرن أو أكثر؛ ودخلت في هذا السباق الحضاري مجتمعات ودول جديدة أدركت حجم تأخرها عن العالم المتقدم فحثت من خطاها لتتجاوز سنين قعودها وتخلفها فلحقت وتفوقت وأثبتت جدارتها؛ بينما تراخينا نحن قليلاً أو كثيراً لا أعلم حجم ووزن هذا التراخي، وكأننا قد أذهلتنا نشوة ما بنيناه في الجبيل وينبع وجامعة الملك فهد وجامعة الملك سعود ثم الإمام محمد بن سعود الإسلامية وغيرها.
مطار الملك خالد الدولي الآن ليس هو ذلك الذي بني قبل ثلاثة عقود؛ فقد تجاوزه الزمن، وكما هو الشأن في هذه الحياة؛ فالبيت القديم يحتاج دائماً إلى ترميم وإصلاح، وإذا ضاق بساكنيه ولم يعد يستوعبهم فلا مفر من الانتقال إلى منزل أكثر اتساعاً وجدة، هذا المطار كان تحفة نادرة في وقته، وأصبح قياساً إلى التنافس العالمي في الابتكار والإبداع شيئاً من الماضي، شيئاً يمثل مرحلة من تأريخنا الوطني في خطواتنا التنموية، ولن نعجز أبداً عن ابتكار ما هو أجمل وأفضل وأكثر بهاء وتميزاً وإبداعاً؛ فنحن نملك القدرات الفنية والعقلية والكفاءات الإدارية المتميزة إذا أحسن اختيارها، ونملك المال الذي سيصنع المعجزات إن أحسن أيضا إنفاقه في المفيد مثل مشروع مطار جديد ضخم يليق بعاصمة دولتنا المجيدة الرياض.
المطار واجهة أولى للدولة، وأول انطباع للزائر هو ما يراه حين يفتح باب الطائرة ويعبر النفق من الباب إلى الصالات؛ إنه المشهد الأول الذي تلتقطه العين وتسجله الذاكرة بناء وهندسة ونظافة وترتيباً وجمال تنسيق وسمو ذوق وحسن تعامل ولطافة من رجال الجوازات والجمارك وبقية الخدمات.
إنك أول ما تدخل وتقف أمام كاونتر العفش وترفع رأسك تجد أربع فتحات كفوهات الزمن الغادر لا يسترها غطاء، وحين تسأل يجيبك أحدهم بأن هذه فتحات شاشات الرحلات المغادرة والقادمة معطلة ونزعت من مكانها ولم يتم تركيب بديل لها أو إصلاحها!
وبعد أن تنهي إجراءات سفرك وتضع خطوتك الأولى في صالة المغادرة الدولية تسمع بصوت عال النداءات المتكررة بالرحلات المغادرة إلى تبوك وجازان والدمام وجدة وأبها ووادي الدواسر! فما علاقة ركاب هذه الصالة الدولية بتلك الرحلات الداخلية؟!
أما حين تحتاج إلى ما قد يلزمك مما نسيته فلن تجد سوقاً حرة متعددة الخيارات كما في كل مطارات العالم؛ ستقف بين رفي بقالة صغيرة أشبه ما تكون ببقالات حي شعبي!
أما حينما يعود المسافرون؛ فأول ما يدلف الركاب إلى الصالات بالنفق إن لم يلجأوا إلى الحافلات سيفاجأون أحياناً بنافورة معطوبة معطلة مغبرة، وبسلالم كهربائية متوقفة لا تعمل في كثير من الأحيان، وبسيور العفش البطيئة تحن وتون وتقرقع وتقربع وكأنها تقفز مطبات شوارع عتيقة متهالكة، وتصدر أصواتاً مزعجة تغطي الصالة كلها، ثم تتراكم الحقائب على بعضها لقصر طول هذه السيور، ويتراص الركاب منتظرين حقائبهم بحيث لا تجد فراغاً يتسع لواقف جديد؛ ثم تتناثر الحقائب في الصالة في منظر أقرب ما يشبه الحراج وسط فوضى وهرج ومرج، وحين تحتاج إلى دورات المياه -أكرمكم الله- تجدها أيضا تعاني من القدم والتهالك رغم أنك تقرأ عليها تنبيهاً لطيفاً بأنها تعمل آلياً! وبعد أن تخرج من الصالة لن تفارقك نغمة مطار الرياض القديم بكلمات محفوظة مع حبات السبحة المتقافزة بين أصابع منتظرة قلقة: تبي تكسي؟! وكأن إدارة المرور مع وزارة النقل قد عجزتا عن تنظيم سيارات الأجرة وفق أنظمة عالمية يتبعها أصغر مطار في العالم في أفقر وأصغر دولة!
وعلى ضيق الصالتين الدوليتين والصالة الوحيدة للرحلات الداخلية لم يتم إلى الآن الاستفادة من الصالة الرابعة المغلقة التي لم تفتتح بعد منذ أن أنشئ المطار قبل ثلاثين عاماً!
مطار الملك خالد الدولي لا يليق بنا؛ بل يرسم صورة سلبية عنا بكل تفاصيله من العتبة الأولى إلى سيارات الأجرة!
المرهق والمؤلم نفسياً لأي مواطن مسافر محب لوطنه قادم من دبي مفارقة صورة المطارين؛ الفخم والزاهي والحديث في دبي، والقديم والمتواضع في الرياض!
moh.alowain@gmail.commALowein@