محفوفة بالدعوات والمعوذات تغذ منى اليوسف المسيرة عبر مملكتين وملكوت موزعة على ثلاث قارات. المملكة البريطانية، أمريكا الشمالية والمملكة العربية السعودية. في طرفة عين تقفز طفلة القطيف من مريولها الأزرق بياقته البيضاء
فيتطاير ذيل الحصان الأسود المضمخ بحمرة الحناء بين بقيق ورأس تنورة وكامب أرامكو فيما تحل البنت في إيهاب شابة مشتعلة بالأحلام تطل من باب معتقل معتم بالرياض لتشغل المشهد بالأسئلة.
تقطع الشارع إلى عملها بلندن “مفعمة بنكهة القهوة الإيطالية في الحاضر وبرائحة هيل القهوة العربية في أخيلة ما ترفض أن يكون مجرد ماض” تستعيد الطرقات والمشاوير العديدة التي كان عليها أن تقطعها في حياة متأرجحة بين عدة أصناف من شراسة الارتحال. أعذبها وأقلها عذابات رحلة الطفولة من بيت أسرتها الصغيرة العصري نسبياً إلى بيت جدتها فاطمة ببوابته الخشبية المحفورة بطعم الطمأنينة والدعة والرطب الجني لبساتين صفوة. بين بيت الأم والأب وبين بيوت الأجداد المفتوحة بأريحية للحسينيات ولجلوات الأفراح ترعرعت مع أخواتها البنات وعدد لا يحصى من الأقرباء والقريبات لعدة عوائل ممتدة من جذر الأسرة الأم. عبر محطات الرحلة الحياتية العديدة تحرك منى مفاتيح محمولها أو حبر قلمها لتكتب سفراً من أسفار حياة النساء. ثلاثة أجيال من السلالات النسوية، حياة الجدة والأم والبنت. فاطمة ومريم والبنت ولنسمها وفاء، منى، بسمة، طفول أو فاطمة الصغيرة، سمية، مها، هتون، حسناء، نهى، هدى، هيفاء أو أي من أسماء البنات من مواليد مطلع الستينيات. غير ان الخطورة لهذه الكتابة كما تقرر البطلة أو الكاتبة أو تلك المرأة الحبلى بانتحال الشخصيتين، ليست أنها تستحضر أطيافاً وأشباحاً وظلالاً لحياة سابقة من الماضي، بل إن الخطورة تكمن في موقف الاستدعاء أو الاستجواب أو الاستجراح الذي تضع نفسها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً فيه.
في مقدمة وستة عشر فصلاً نخالها قصيرة لكنها بعمق آبار سوداء تحفر منى اليوسف البحر وتوغل في الرمل لتعبر بنا اليم تارة وتارة العديد من الفلوات والسواحل والمغارات والمفازات. وهي فصول تتعدد في عدة عناوين وعبر عدة مآزق وأعناق ومضائق وآفاق تتنوع من السؤال السياسي إلى الوجودي ومن الديني إلى الشعري ومن المدني والحضاري إلى الوطني والعالمي، ومن العام إلى الشخصي في مكوكية معكوسة مرة ومتوازية مرة وفي سجال جدلي في كل المرات. وهذه العناوين بخيانة فاقعة لا تخفى للترجمة تتلاحق بالتتابع التالي: 1- مكونات الهوية، 2- بين انغلاق وانفتاح، 3- يقظة سياسية، 4- اختيار عربي سعودي. المانالوج/ الارتداد. 5- شريط المعتقل، 6- التحولات من خباء لخباء. 7- ابتعاد - عودة.
مس الذاكرة: فاطمة سيدة الإلهام
8- حياة خائبة خيبة الأحلام. 9- صفحة جديدة. 10- عيشة الترحل. 11- من ترحال لترحال نحو التحولات. 12- مانولوج صمت مطبق انطباق الروح.
تفكيك الذاكرة:
13- بين انتصارات الرعب واستسلام الرشد
14- مزار الطفولة
15- معاودة الارتحال
16- 2008
إهداء إلى فاطمة
مشياً على أقدام حافية وبهامة سابحة نحو سماوات الانعتاق وفي جسد لا يتحلى إلا كالطيور بالأجنحة والغمام تسير تلك الفتاة اللماحة النحيلة محملة بموجدة الوطن وبلوعة البشر على الخروج من الجنة. من أر ض لأرض في أرض الله الواسعة. تشيلها بلاد وتحطها بلاد من شرق الوطن لسرته وسرواته ومن السعودية إلى الإمارات ومن الخليج العربي إلى المحيط الهادي إلى بحر المانش. ومن مطلع الثمانينيات إلى 2008، ومن مهن تعليمية وأكاديمية إلى أعمال إدارية واستشارية في تدريب لا يخلو من قسوة على الذات وفظاظة مع الإحساس لإتقان العلاقة الغامضة المعقدة بين المعرفة والقوة ولإطلاق ريش الروح في أكثر من اتجاه دون التردد أمام الأسلاك الصاعقة للحواجز والمحذورات. وفيما لا يزال شرر الفتاة اللماحة النحيلة المشغولة بمواجد الوطن والنساء والحرية ونجومها يتطايران من شريط الذاكرة وفي أرجاء ماكان فضاء صحراويا يمتد من عليشة إلى الدرعية لجامعة الملك سعود نصير في تراكم راكض من بصمات السنوات التي لا ترى بالعين المجردة إزاء امرأة فارهة أنضجتها السنوات على نار لم تكن هادئة. “كان لدي ثقة قوية بالمرأة التي صرت” (اليوسف، 2011: 145) فبعد عرق ودموع ونذور وكفاح لم تكن لتدع تجربة وجدانية توصلها إلى نقطة الانكسار. فليس من خيار في اللحظات الحادة والحاسمة من مراحل الحياة إلا اتخاذ قرار بالهزيمة أو بالانسحاب الكسير الذي لا يقل في العادة مهانة عن الهزيمة أو الإصرار بصرامة على الانتصار. ولهذا تقرر منى عن سابق عمد وترصد على أن تنتصر لتلك المرأة وتحافظ على كرامتها باعتزاز ورباطة جأش أمام عاديات العلاقات غير العادلة كما سبق ووقفت عزلاء إلا من ريعان الشباب وأحلام الصحو في وقفة رفض لأي انكسار سياسي. ومنى مشدودة بالحبل السري النفسي والجسدي الذي يربطها بالجدة فاطمة وبالأم مريم وبشقيقتيها صفية وآية وبالبلاد بمعناها كوطن وكرمز تعرف أنها في عمليتها الانتحارية لهزيمة الانكسار بأشكاله المركبة السافرة والمقنعة معا إنما تقترف تحدي استعادة الحياة بالأصالة عن عموم النساء كما فعلت شهرزاد.
“عند ذلك المنعطف من حياتي” في حياة مفخخة بمنحنيات حادة الكثير منها مخاتل وغدار، “كنت قد توصلت لقناعة ذاتية عميقة بأن لنفسي علي حقا أو لي حق على نفسي في هوية مستقلة كإنسانة آهلة حرة وكمسلمة وكمواطنة في بلدي. لي كامل الحق بأن أروي ويكون لي روايتي الخاصة، الخالصة، أي شهرزاد بصوت مختلف، وذلك ليس بهدف رفع سيف شهريار عن عنقي ولكن..” لتحرير الذات “فأكون المرأة التي أنا وسط الوف الشهرزادات” (153).
عندما وصلت في قراءتي لعمل منى اليوسف عند هذه النقطة كففت نفسي عن المقارنات التي كانت تلح على خاطري بين مذكرات في ظلال صوتها وبين رحلة جبلية لفدوى طوقان أو الشرائط الملونة لليلى عسيران أو أو نساء على أجنحة الحلم لفاطمة المرنيسي أو بنت الحظ واكتشاف هويتي من جديد في وطني البديل لإيزبل الليندي أو حتى المذكرات المعتقة لإنجلا ديفيدز. فهذه المذكرات مثل كل الأعمال الإبداعية المكتوبة بحمرة الحب وببياض القلب وبشمس العقل وبسواد الليل وبياض النهار نسيج وحدها، إلا أنها أيضا نسيج مستل من سعف نخل القطيف وصفوى والاحساء ومن رمضاء البحر وملح الصحراء ومن أحزان وأفراح الوطن والنساء والرجال، لذلك ففيه الكثير من شجن الشعر بقدر ما فيه الكثير من الحفريات المعرفية للتحولات التي مر بها المجتمع السعودي خاصة والعربي عامة منذ الستينيات الميلادية على صعيد أسري ومجتمعي. كما أن العمل محمل بالكثير من الوقفات التسجيلية للتاريخ الاجتماعي الحديث للمجتمع السعودي ولعمليات المد والجزر في تيارات الوعي السياسي والفكري..
ويبقى في الفم ماء وفي الحنجرة يتغرغر سؤال ليس اخيرا، أختم به هذه القراءة لكتاب منى اليوسف الصادر بالإنجليزية عام 2011م بعنوان (In the shadow of her voice)
وهذا السؤال هو: هل فضلت منى أن تفشل في اختبار القبول بدعة الراحة وملذات الوعي المستتب أو أنها حقا نجحت في أن تنتزع لنفسها تعددا في الخيارات مهما تطلب ذلك من نفس طويل وجهد شاق وحالة لا تشفى من قلق سعة الأفق ومحاذير التحولات؟!
Fowziyaat@hotmail.comTwitter: F@abukhalid