ما زال تلاقح العقول مشروعاً.. ما دامت النفوس طيبة والنوايا حسنة.. فقد حسبت أن سورة الرغبة أدبرت، وأن التعقيب سيكون إطالة في غير مطال، حتى ترجح عندي أن جريدة الجزيرة لا تجد بأساً في الكلمة الطيبة، ولا تغلق الباب أمام الآراء المختلفة ووجهات النظر المتباينة، ولا سيما إذا كانت غير مبنية على أساس تخطئة الآخر، بل تأتي في باب الإغناء وتبادل الآراء.
والذي شدني إلى مقال الأخ شمس الدين المنشور في 20-11-1433هـ الموافق 6-10-2012م، الروح الموضوعية التي تحلى بها الباحث في مقاله - الذي وقع فيه سهواً في اسم محقق ديوان الإمام الشافعي فذكر اسمي بدلاً من اسم د. مجاهد.
ولي صلة متواضعة بديوان الشافعي - رضي الله عنه- في موقفين ومحطتين، الأولى: لما شرع أخي د. مجاهد مصطفى تحقيق ديوان الشافعي في وقت مبكر من الثمانينيات بعيد إكماله لرسالة الدكتوراه 1977م في جامعة الأزهر، وكانت عن الاتجاه الإسلامي في شعر العصر العباسي الأول.. وكنت يومها أعمل في جامعة الموصل، وأخذ نفسه بصرامة التحقيق والتوثيق لينهض بمشروع علمي كبير فصدر الديوان 1986م، وقد شعرت بحاجة تراثنا إلى هذا النوع من الأناة والدقة في التوثيق، وكان ثمن ذلك سنوات أخرى طويلة من الصبر تواصلت حتى صدور الطبعة الثانية من ديوان الشافعي سنة 2003م. وماذا بعد كل هذا؟ جاء التحقيق في 199 صفحة فقط تحكي بكل تواضع كيف يمكن أن نحفظ تراثنا من التحريف والتزوير! ولست بصدد التعريف بالجهد المبذول فيه لأني مجروح الشهادة، ولكني أكتفي بالإشارة السريعة إلى أن فهرس المصادر الذي عاد إليه المحقق بلغ 44 مخطوطاً، و267 مصدراً يمكن الرجوع إليها ص160-187.
أما المحطة الثانية، فهي قبل نحو ستة أشهر حين كلفت أن أكون ممتحناً لرسالة دكتوراه في الجامعة الوطنية بماليزيا، وكانت بعنوان الأساليب البلاغية في ديوان الإمام الشافعي، دراسة تحليلية للطالب عماد البطاح، وبعد المناقشة أصبح عنوان الرسالة: (ديوان الشافعي بين الثابت والمنحول.. دراسة تحليلية بلاغية).
ويكفي أن أسوق بين أيديكم جدولاً بالنسخ المنتشرة في المكتبات التي تحمل عنوان ديوان الشافعي، مع ذكر اسم المحقق وعدد الصفحات، ولم أستطع معرفة عدد الصفحات في الرقم 1و7 وهي مرتبة حسب تاريخ النشر:
محمود إبراهيم باسم، ..ص، 1911م، زهدي يكن 204 ص، 1961م، عبدالعزيز سيد الأهل 84 ص، 1966م، محمد عفيف الزعبي، 103 ص، 1971م، نعيم زرزور، 114 ص، 1984م، محمد عبدالمنعم خفاجي، 142 ص، 1990م، مايو عبدالقادر، ..ص، 2000م، صلاح الدين الهواري، 143 ص، 2003م، مجاهد مصطفى بهجت، 199 ص، 2003م، وإحسان عباس، 111 ص، د.ت.
وقد جاءت الإشارة في تعقيب شمس الدين درمش إلى بعض آخر، وليس كل ما ورد فيها صحيحاً بالنسبة للشافعي، وعلى سبيل المثال أن 30 نصاً مما اعتمد في طبعة الزعبي ويمثل 25% من شعره هو الصحيح من 122 نصاً، مما جاء في طبعة المكتبة الثقافية.
فلماذا تعددت طبعات الديوان بهذا القدر الكبير؟ ولا يعد تعددها كبيراً إذا ما قيس بديوان المتنبي مثلاً، وقد تجاوزت شروحه خمسين شرحاً؟ ونجتهد في الجواب عن هذا السؤال المشروع، فنقول: هو مكانة الإمام الشافعي.
وسؤال ثان: إذا كانت مكانته كذلك فلماذا، وقع التزوير والانتحال في أشعاره؟ والجواب: أن شعره لم يدون في المصادر القريبة من وفاته، وأن أكثر من روي من شعره كان في القرن السابع، أي بعد وفاته بحوالي خمسة قرون، لأن وفاته كانت سنة 204هـ، والذي روي من شعره إلى القرن الخامس الهجري هو سبعة نصوص فقط، ولا يتجاوز بذلك نسبة 03% وأن أكثر عدد روي منها في القرنين السابع والثامن هو 153 نصاً ويؤلف حوالي 63% من مجموع شعره، وأما بقية 34% فقد روي في القرون 9 إلى 14، وبذلك نجد أن المصادر الأولية لأمر ما لم تعن بجمع أشعار الإمام الشافعي، ويمكن التوثق من هذه الإحصائيات في التحقيق والدراسة التي أشرت إليها للدكتور مجاهد، والله أعلم بالصواب، والشكر موصول للعسكر ودرمش اللذين حفزاني لكتابة هذه السطور، ولصفحة عزيزتي الجزيرة ولجريدة الجزيرة خالص المودة والتقدير.
أ. د. منجد مصطفى بهجت - الجامعة الإسلامية العالمية - ماليزيا