لدي قناعة تامة أن من يعتقد أن جهاد الطلب (الغزو) مازال مشروعاً فهو يعيش خارج العصر تماماً، وهو نقلي (أجوف) إلى درجة أن المتغيرات الموضوعية التي طرأت على العالم وعلى الصراع وعلى الأسلحة، وبالذات الأسلحة الذرية، لا علاقة لها بمقاييسه واستنتاجاته واستنباطاته للأحكام؛ وهو إما أن يكون (حفيظاً) كالببغاء يُردد ما تختزنه حافظته دون أن يعرض ما جنته ذاكرته من محفوظات على عقله والقياسات المنطقية للأمور - وهؤلاء بالمناسبة كثر - أو أنه من أولئك الذين يعتبرون أن العصر كلحظة الثبات الافتراضية، لا يتغير ولا يتبدل، وبالتالي فما كان صالحاً لعصر مضى فهو يفترض - بسذاجة - صلاحيته ليس فقط لعصرنا الحاضر، وإنما للمستقبل.
كنت أعتقد أن هؤلاء الذين يؤمنون أن جهاد الطلب أو الغزو مازال ممكناً قد اندثروا مثلما اندثر الرق وكذلك (الغول) من الصحاري المقفرة، إلا أنني فوجئت بإحدهم يُجادلني بالقول: إن الجهاد بنوعيه (الدفع والطلب) مازال قائماً، وسيبقى مشروعاً إلى أن تقوم الساعة. قلت: أوافقك بالنسبة لجهاد المقاومة (الدفع)، فهو حق مشروع لكل من احتلّ وطنه، أما جهاد الغزو (الطلب) فمتعذر ومستحيل؛ وهو يُصنف الآن على أنه خروج سافر على الشرعية الدولية، ليس هذا فحسب وإنما لا مجال للغزو اليوم في ظل السلاح الذري؛ وأردفتُ قائلاً: إقرار جهاد الغزو كحق رباني من حقوق المسلمين - كما تقول - يعني أن مأساة نكازاكي و هيروشيما اليابانيتين ستتكرر حتماً وبشكل أقسى عشرات المرات مما كانت عليه، فهل الإسلام يدعو إلى إبادة البشر؟؛ فأراد أن يتملص من السؤال عندما عجز عن الرد أمام وضوح الصورة والشاهد فقال: الله فوق القنبلة الذرية الله يهديك؛ وأضاف: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة؛ وأنهى النقاش بقوله: أشك في إيمانك!.. أي أن الإيمان بالنسبة لهذا الرجل المؤمن البسيط هو أن تُهمش عقلك وتتبع (ما صح) من الدليل حتى وإن ألقى بك هذا الدليل إلى التهلكة.
أعرف أن هناك كثيراً من الفقهاء والعلماء العقلاء من يُقرون بأن زمن جهاد الغزو في ظل المتغيرات التي طرأت على العالم المعاصر اندثر، ولا يمكن لعاقل أن يُنادي بمشروعيته، تماماً مثلما اندثر الرق وثقافة السبي في الحروب، إلا أن كثيراً من هؤلاء الفقهاء المتنورين يخشون المتشددين وتُبّاعهم من العوام للأسف، ويخافون من ردود أفعالهم، لذلك يتهربون عن مواجهتهم، ويؤثرون الركون إلى السلامة، فيتسيّد المتشددون ويتأخر الوسطيون.. الوحيد الذي واجه هذه الدعوات الحمقاء - حسب ما اطلعت عليه - كان الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله تعالى - فهو رجل لا يخشى في الله لومة لائم، كان رحمه الله يقول بحسم وقطعيّة: (فإن قال لنا قائل الآن لماذا لا نحارب أمريكا وروسيا وفرنسا وإنجلترا لماذا؟ لعدم القدرة، الأسلحة التي ذهب عصرها عندهم هي التي بأيدينا وهي عند أسلحتهم بمنزلة سكاكين الموقد عند الصواريخ، ما تفيد شيئا فكيف يمكن أن نقاتل هؤلاء؟ ولهذا أقول إنه من «الحمق» أن يقول قائل إنه يجب علينا الآن أن نقاتل أمريكا وفرنسا وإنجلترا وروسيا كيف نقاتل؟ هذا تأباه حكمة الله عز وجل ويأباه شرعه)!
المشكلة أن من أهم أدوات الحشد والتعبئة لدى القاعديين الجهاديين من اتباع ابن لادن، وبقية حركات الإسلام العنيف، إحياء (جهاد الغزو)؛ فكل من يُجند الأغيلمة السذج للقاعدة يُجندهم متكئاً على إحياء هذه (الفريضة الغائبة) ويعني بها الجهاد: وهذا بالمناسبة عنوان الكتاب الذي ألفه المهندس الصحوي المصري (محمد عبدالسلام فرج) في أول ظهور حركي للإسلام السياسي الدموي أو العنيف في مصر؛ كما أن (الجهاد) هو العامل المشترك الذي تتمحور حوله جميع الحركات الإسلاموية التي تنادي بالعنف في معارضتها وعلى رأسها تنظيم القاعدة.
وبعد.. إنها دعوة صادقة لقراءة المتغيرات التي طرأت على العالم قراءة موضوعية وعقلانية، وتصحيح مسار الدعوة ومفاهيمها ووسائلها، فليس بالضرورة إطلاقاً، أن ما كان صالحاً في عصر مضى وانتهى أن يكون صالحاً لهذا العصر لاختلاف العصرين اختلافات جذرية لا يتجاوزها إلا جاهل أو مغالط.
إلى اللقاء