يحز في النفس أن تتقلص الطموحات كلما تقدم العمر، خصوصا ً حينما تكون البدايات الأولى واعدة وتأتي النهايات مرتبكة وقلقة. لا أقصد هنا تقلص الطموحات الشخصية، فمن طبائع الأشياء أن يتقلص الإنسان بكامله بتقدم العمر وتضمر أشياء كثيرة فيه، لكنه حين ينكمش ويضمر في جو عام مريح ومتفائل، يتقلص حينئذ وعلى شفته ابتسامة الرضى. تقلص الطموحات الذي أعنيه هنا معنوي وشامل، يتعلق بالطموحات العامة التي يتمناها الإنسان السوي لأهله ومجتمعه. المقصود هو الطموحات الوطنية في التعايش الاجتماعي التكاملي المستقر، والتقدم في اتجاه الحضارة العالمية المفتوحة المتشاركة، وفي الاستنارة العلمية الجماعية والدخول إلى النادي الأممي، ليس من باب المقايضة بالأموال، وإنما من باب البحث والاجتهاد والتجديد والمشاركة في الإنجازات البشرية الكبرى.
أولئك الذين عايشوا أجيال البدايات مثلي، بدايات التعليم المنهجي والانتقال التدريجي من العصر الحجري إلى العالم الجديد، توهموا أو صدقوا آنذاك أنهم قد ودعوا عالم أجدادهم وآبائهم وأصبح بالنسبة لهم عالم قديم. الانتقال من عصر الدواب إلى عصر المركبات الآلية ومن ليالي التحديق في النجوم من سطوح الطين إلى ليالي الكهرباء، ومن حكاوي الجن والسعالي إلى منوعات الراديو والتلفزيون، هذا الانتقال أوقد الطموح في قلوب تلك الأجيال، بقدر ما أقنعهم أيضا ً أن هذا العالم الجديد الذي يوشكون على الدخول فيه ليس من إنجازهم ولم يساهموا بشيء من معجزاته العلمية والصناعية، وأنه عالم مستورد بالكامل، ولكن ولأنه جميل ومثير ومريح يمكن الدخول إليه والمساهمة في إنجازاته متى ما أخلصت النوايا وصدقت العزائم.
كنا نعتقد، نحن أجيال البدايات البريئة آنذاك، أن المجتمع الفطري الطيب لا يمكن أن يتشبث بمواصفات وشروط القديم وهو يرى الجديد، وبالظلام وهو يرى النور وبالحركة الثقيلة البطيئة وهو يرى السرعة المختصرة للزمان والمكان، وبالعلاج العشوائي المتلفلف بالخرافات وهو يرى إمكانيات الطب الحديث.
لكن الذي لم تكن تدركه تلك الأجيال الفطرية هو إمكانيات وسطوة الماضي على المستقبل في كل نواحي الحياة، وقدرته على الممانعة والتعطيل والتقريب والإقصاء وعلى اللعب والتلاعب بالمستقبل وسط تصفيق الجماهير وهتافها. لم نكن نتصور، وكيف لنا أن نتصور أن تظهر عقليات وتكتلات من لحم المجتمع وعظمه ودمه، تستطيع أن تستمتع بإنجازات العلم ورفاهياته بالمكشوف وعلى هواها، وفي نفس الوقت تستخدم جميع إنجازاته في البرمجة العقلية الحديثة، المسموعة والمرئية والمقروءة لتحجب العقول عن التفكير وتجرف الناس إلى التكفير المتبادل وإلى الإرهاب والتفجير والفجور في الخصومات والحفر والنقب تحت كل جدار من مكونات الوطن لتقويضها فوق رؤوس الجميع.
بمجرد أن يتم القبول بحجب العقول عن التفكير في الطاقات الذهنية والمفاهيم والحريات الاستطلاعية الاقتحامية التي أوصلت الآخرين إلى إبداع هذه العوالم الجديدة، يكون المجتمع قد استسلم وسلم أمره للوصاية عليه والتلاعب بمصائره ومصائر أجياله القادمة. الكاتب والمفكر الطليعي الجزائري مالك بن نبي - رحمه الله - سمى ذلك: تأسيس القابلية للاستعباد والاستعمار.
لذلك، أي لأسباب الحجر على العقول خدمة لمصالح تكتلات ماضوية قصيرة النظر، طحنت وما تزال تطحن النزاعات والحروب القومية والعقائدية والمذهبية والإرهابية مكونات التعايش الاجتماعي وتحرق محاولات الاستنبات لمستقبل أفضل. لذلك كرت الأعوام واستهلكت الأعمار والأموال والأزمنة لخدمة الماضي في جميع أنحاء الوطن العربي، ولم يبق من الطموحات القديمة سوى الخشية من التشظيات والإنشطارات المتناهية الصغر، ثم يعود الظلام الدامس يخيم على الجميع.
على مستوى الوطن العربي كله من الخليج إلى المحيط ومن اللاذقية إلى باب المندب، يبدو كما لو أن الزمن دار دورة كاملة وأصبح الجميع على موعد مع حقبة ومحاولة أخرى من السير في الظلام، كتكرار رتيب لما سبق أن جرب مراراً وثبت فشله وأوجد في العرب القابلية للاستعباد والاستعمار للأمم الأخرى.
نصيحة من مجرب إلى الأجيال الشابة: فكروا بما تسمعونه من المتاجرين بالمذاهب والسياسيات، هل يفعلون ما يقولون أم أنهم يقولون ما لا يفعلون، واجعلوا الوطن في قلوبكم وسيروا إلى الأمام.
- الرياض