يبدو لي أن مسار الفكر الثقافي العربي اعتباراً من خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم قد مر بثلاث مراحل تدعو للتأمل، ابتداء كمسار قومي ثم مسار منكسر ومتعرج إلى إن وصل إلى مسار مهزوم من الأمر الواقع ومتصالح معه، وجاء الربيع العربي وكأنه يعلن عن عودة الفكر والثقافة الأصيلة ويجدد انبعاثها.
وما يُمكن قوله بعجالة وإيجاز هو أن المرجع السياسي كان المتسيد والموجه لرياح الفكر والثقافة منذ الخمسينيات وإلى ما قبل أشهر، فاليسار القومي والوحدوي واليمين السلفي وخلافته الراشدة صالت وجالت ثم انزوت وغابت اعتباراً من تسعينيات القرن الماضي ولم تعد تكاد تظهر إلا لماماً وهمساً، بل إن كثيراً منها قد انضوى إلى داخل إطار البعد السياسي المتسيّد والمستند إلى القوة والمال، ومن المفيد عندما نذكر القوة والمال أن نعترف بأن هذا يستدعي الثقافة الغربية للواجهة، وهذه المرة ليس في خانة العدو الذي كان يُوصف بالإمبريالية والرجعية من اليسار أو الكفرة الملحدين من جانب اليمين ولكن بوصف جديد يلبس الثوب الحضاري المتعقل هذه المرة تحت عنوان الواقعية والتحضر، فلم تعد الحقوق هي القوة ولكن التناغم والانسجام مع الآخر هما القوة، حتى وإن أدى ذلك إلى ترويض القيم والمبادئ، غير أن الربيع العربي الذي فاجأ الجميع ثورة براكينه في أكثر من قطر عربي، وفي وقت كانت أحداث أيلول - سبتمبر عام 2001م قد أوشكت أن تقضي بانتصار نهائي لتلك الثقافة، إلى درجة أن التيار الأكثر عمقاً وتجذراً، وهو التيار الإسلامي كاد هو الآخر أن يُصارع ذاته، لا بل صارع ذاته وشذّب مقوماته ليدخل بأي شكل مع السائد المتسيّد ذي الصوت الأعلى حماية لوجوده، ولو بالنزر اليسير، وإذا بالجماهير تظهر في تونس غاضبة على واقعها، وكأنما تقرع أجراس اليقظة في العقول التي غفت أو أوشكت على السبات ببساط الريح السابح في فضاء الاستسلام للنظرية التي حكمت بأن الواقع هو الذي يُشكِّل الثقافة وليس العكس.
ولم تكن الثقافة العربية الإسلامية في جانبيها القومي والديني أبداً ثقافة تابعة، وهي الغنية برسالة وتاريخ، لكن الضعف والوهن واليأس ضرب أطنابه في عقول كثيرة انبهرت بنتاج الغرب وقوته وابتكاراته، فقد جاء تفسُّخ الاتحاد السوفييتي بعد عقد ونيف من كامب ديفيد التي ضربت الثقافة القومية العربية في قلبها النابض ليلحقها عار الغزو العراقي للكويت، ثم استباحة العراق واحتلاله لنصل مرحلة استجداء الصلح والسلام مع العدو، أو القوة على حساب الحق والمبادئ، ولأن التيار أو الفكر الثقافي الإسلامي وقد وجد نفسه محصوراً بين واقع غير طبيعي، ويأس مغلق عن التغير أو الإبداع، فقد لجأ بعضه للتطرف والخروج من العقل إلى التاريخ، فكانت أحداث سبتمبر التي ضربت ثقافة الفكر الإسلامي وألحقت هذه بتلك، فانهارت الثقافتان القومية العربية والعربية الإسلامية، وظهر على ركامها ثقافة القبول بالأمر الواقع والانسجام معه.
ولأننا ما زلنا في غمار التحول التاريخي الناتج عن تفجُّر ثورات الربيع العربي الذي لم تتكشف بعد توابعه وآثاره على واقع الثقافة العربية والإسلامية بشكل يجعلنا أكثر جرأة في القراءة والطرح، باعتبار أن الوقت ما زال قصيراً جداً، ولا يكفي لرسم صورة واضحة لما يجري في راهن الحال، إلا أن بالإمكان تلمُّس أبعاد المشهد وتوقع تطوراته، لكن الذي يهم حالياً هو القول إن المناخ الثقافي في منطقتنا العربية يتغير، وليس هذا وحسب، بل إن الفكر القومي والديني يعود من جديد لطرد ونسف ثقافة وفكر الأمر الواقع، حتى وإن كان بعض رواد هذه الثقافة، وهذا الفكر ما زالوا يراهنون على فشل التجربة الجديدة ويمارسون شيطنة انبعاثه عبر وسائل الإعلام، وأحياناً بحبك المؤامرات والدسائس، إلا أن حركة التغير تتجه بشكل طبيعي نحو خلق جديد أو تجديد قديم لكن بشكل مختلف، وهذا يعني أننا أمام فكر وثقافة وإن لم تكن جديدة إلا إنها تتجدد، وهي قادرة على تغيير الواقع السياسي في المنطقة العربية، ليصبح المرجع الثقافي هو المتسيد والموجه للاتجاه السياسي وليس العكس كما كان سابقاً، ومن عجائب القدر أن يظهر الغرب الذي كان إمبريالياً ثم أصبح حضارياً ليتحول اليوم إلى متآمر، وأعجب من ذلك، أن يلجأ مثقفو ومفكرو الأمر الواقع إلى ربط الربيع العربي بالغرب، واعتبار الأمر بمثابة مؤامرة ضد الفكر القومي والديني، أمر لا يمكن وصفه كمشهد مدقع في البؤس لبقايا ثقافة الأمر الواقع إلا بقول أمير الشعراء في إحدى قصائده:
إذا الإيمان ضاع فلا
دنيا لمن لم يحيي دينه.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni