للمرة الأولى تعترف إسرائيل بأن اليهود ليسوا أغلبية بين النهر والبحر (فلسطين التاريخية)! أليس من المحتمل أن تبحث عن “مانديلا فلسطيني” بعد جيل من الآن؟ شريطة أن ينجح الفلسطينيون في المقاومة السلمية، فالعمل المسلح لم يثمر وكذلك الحل السياسي..
قبل أقل من شهر اعترفت الحكومة الإسرائيلية أن اليهود ليسوا أغلبية بين النهر والبحر، وأن الأقلية اليهودية تسيطر على الأغلبية العربية، كما ذكرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، وأضافت أن جهاز الإحصاء المركزي التابع لمكتب رئيس الحكومة نشر أن عدد السكان في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل بين النهر والبحر 12 مليوناً، وأن عدد اليهود 5.9 مليون وغير اليهود 6.1 مليون.
وقالت الصحيفة إن مصادر أجنبية أكدت أن هذا الأمر من شأنه أن يقلق نتنياهو لأن أمريكا والاتحاد الأوروبي سيصلون إلى قناعة بأن الأقلية تسيطر على الأغلبية وسيعملون على دعم إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967 بسبب الوضع الديمغرافي.
حسناً، إذا كانت إسرائيل اعترفت بأمر واقعي، فما الذي يمنع أن تحذو حذو جمهورية جنوب أفريقيا؟ كلا النظامين السياسيين لجنوب أفريقيا وإسرائيل كانا يتشابهان بأنهما ديمقراطيان لفئة معينة، وهي فئة مستوطنة قادمة من أوربا..
لكن جنوب أفريقيا تحررت من عنصريتها نتيجة الضغط الدولي المكثف ونضج المقاومة السلمية التي فضحت الإدعاءات الأخلاقية لنظام ديمقراطي، وحيَّدت التفوق العسكري لنظام عنصري.
والسبق لجنوب أفريقيا هو معادلة الأكثرية (الأصلية) والأقلية (المستوطنة).
هذه المعادلة ستتزايد لصالح الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية من الآن فصاعدا..
فاعلية المقاومة السلمية تكمن في تحييد القوة العسكرية للجانب الظالم واللجوء إلى قوة يمتلكها الجانب المظلوم والأضعف عسكرياً تنبع من قوة الحقيقة والعدالة.
قوة الحقيقة في فلسطين هي أن العرب أصبحوا أغلبية، وقوة العدالة هي أن الأغلبية من حقها أن تحكم! فإذا كانت أغلب دول العالم -غير العربية- تعترف بدولة إسرائيل على أرض فلسطين 1948، ولا تُدرك تفاصيل نشوء هذا الكيان المحتل على حساب أصحاب الأرض، فإنها الآن لن تستطيع تجاهل الحقيقة الديمغرافية الجديدة..
قوة الحقيقة والعدالة وطاقتها المعنوية الهائلة لا تكفي دون تنظيم المقاومة السلمية في استراتيجية تحدد الأهداف المرحلية والنهائية، كتنظيم الاحتجاج الشعبي والعصيان المدني، كما حدث في الهند وفي جنوب أفريقيا.
فالمقاومة السلمية أثبتت قدرتها على سحق أعتى الجيوش، لأنها تشلّ القدرة المادية للخصم بقوة لا يمكن مجابهتها بجيوش جرارة.
أضف إلى ذلك أن المقاومة السلمية تفكك جبهة الخصم وتكتسب بعض التعاطف بين صفوفه، بينما المقاومة المسلحة توحِّد جبهة الخصم دفاعاً عن وجوده..
ولو تمكن الفلسطينيون من سحب ذريعة الهاجس الأمني لدى الإسرائيليين وتم تحييد جيشهم، لكانوا هم الأغلبية التي قد تضطر الأقلية الإسرائيلية إلى البحث عن مانديلا فلسطيني كما أشار فيصل الحسيني في أحد لقاءاته قبيل وفاته بأشهر.
وإذا قيَّمنا نتائج أعمال المقاومة المسلحة للفصائل الفلسطينية نجد أنها لم تجبر إسرائيل على تقديم تنازلات إلا أقل من ربع فلسطين، وهي ليست تنازلات لأنها تتخلى عن مناطق اغتصبتها عام 1967، أي مناطق بالأساس يعتبرها المجتمع الدولي محتلة.
وحتى في هذه الحالة ومع دخول منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات سياسية تعترف بإسرائيل، فإن إسرائيل لم تعترف بالدولة الفلسطينية حتى وهي مجزأة منقوصة السيادة! بينما استمرار المقاومة المسلحة يجابه بضرب عنيف على المناطق التي تخلو من الإسرائيليين، لتكون خسائر الفلسطينيين أكبر كثيراً من الأرباح؛ إضافة للخسائر على المستوى الدولي الذي ينظر لهذه المقاومة المسلحة بأنها إرهابية..
والمحصلة أنها توجع الفلسطينيين وقلما تضر إسرائيل، بل تعطيها قوة ترابط على المستوى الداخلي، ومسوغاً أخلاقيا على المستوى الخارجي لضرب المقاومة المسلحة دفاعاً عن نفسها..
يلاحظ هنا أن حماس بدأت تحظى ببعض الدعم الدولي لأنها بدأت تتخلى عملياً وليس إيديولوجيا عن المقاومة المسلحة.. كلاهما المقاومة المسلحة والحل الدبلوماسي جُربا لسنيين طويلة وفشلا على أرض الواقع الفلسطيني.. أما المقاومة السلمية فهي لم تجرب بما يكفي.
يقول رائد عوض أبو ساحلية: نحن بحاجة إلى غاندي فلسطيني أمثال الزعيم الهندي غاندي أو لوثر كينغ ونيلسون مانديلا..
لقد كان عندنا مبارك عوض مؤسس المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف وكان فاعلاً في الانتفاضة الأولى وزرع بذور حركة لا عنفية نشيطة ولكنه أبعد إلى أمريكا بعد أن سجن، وكان لدينا الشهيد فيصل الحسيني الذي تمتع برصيد نضالي يعود إلى جده ووالده وما اكتسبه من خبرة وحنكة في النضال الشعبي على الأرض لدرجة أنه أصبح عنواناً للقدس وقد فقدته المدينة وفقدناه تاركاً فراغاً لا يعوض..
لو كنت مكان القيادة الفلسطينية الحالية لدعوت السيد مانديلا وغيره من الأخصائيين في مجال اللاعنف لعقد دورات تدريبية في هذا الفن النضالي الراقي الذي يفوق كل التدريبات العسكرية والحربية!!.
هذا الفن النضالي يرعب القادة الإسرائليين، فقد سبق لبعض الجنرالات من تحذير الحكومة الإسرائيلية بأن لجوء الجانب الفلسطيني إلى سلاح اللاعنف سيشل حركة الجيش لذلك يجب منع الفلسطينيين من استخدامه “لأن لدينا جيشا مدربا للحرب والقتال وليس لمواجهة الشعب الأعزل..
ويقول تومسون أستاذ علم النفس واللاعنف بجامعة ميتشغان: منذ سنين قامت إسرائيل باتخاذ تدابير صارمة لضمان عدم تجذُّر هذه الأعمال -اللاعنفية- في أوساط الفلسطينيين.. وهذا بحد ذاته، يجب أن يلفت نظر الذين يقررون الاستراتيجية الفلسطينية.. فالخصم يكون مقيداً أكثر في استخدام القمع ضد العمل اللاعنفي..
من كان يتوقع أن نيلسون مانديلا الذي حُكم عليه بالسجن المؤبد من قبل جمهورية جنوب أفريقيا سيصبح رئيسا لهذه الجمهورية!؟ قانون “ما أُخذ بالعنف لا يسترد إلا بالعنف” لم يعد هو القانون المتحكم بالصراعات في الزمن الحالي، ناهيك عن أنه بالأصل قانون سياسي نسبي يتأثر بالظروف وليس قانوناً مطلقا.
والخلاصة، أنه في الموقف الذي يقرره العنف يفوز الفريق الذي يتحكم بأكبر قدر ممكن من القوة المسلحة.
لذا فليفكر الفلسطينيون في تغيير ساحة المعركة من عنفية إلى سلمية..
فيوم ما قد يرفع الجنود الإسرائيليون العلم الفلسلطيني في المحطة الأخيرة لهذه الساحة السلمية كما فعل أمثالهم من الجنود البيض في جمهورية جنوب أفريقيا!.
alhebib@yahoo.com