في يوم دراسي يغلب عليه الهدوء، وفي مقر المكتبة في المدرسة كان يجلس بجانبي - عن يميني - حيث كنَّا ندرس الأدب، قلت له: اليوم لدي رغبةٌ جامحة واشتياقٌ كبير لسماع جديدك، وكنتُ قد اشترطتُ عليه أن أوثق صوته بالجوال، قال لي بلا تردد وفي عفويةٍ مطلقة: (أبشر يا أستاذ أنت تامر أمر)!
رحل وبقيت ذكراه عندي في مخيلتي وبين حناياي وفي وجداني رحل ولم أُدوِّن صوته بالجوال وهو الذي قد نحته في أعماق قلبي، تاركًا صداه يتردد في الآذان، لا أخفي على أحدٍ منكم أنَّ صوته كان يصل إلى حد التأثير، يفتح أبواب القلوب بلا استئذان، إِنَّه كنزٌ شجيٌ له أنين ورنين حين يرتل وكذلك هو حين يشدو. بل وحين يأسرك في ابتسامته الذي أخذت رسمها على محياه، لطالما كان مبتسمًا خلوقًا عذب الصوت، رقيق الوقع على الأذنين، ناعمًا مؤثرا، مطربٌ ومحرك للوجدان، يحسن اختيار ما يقدمه من كلمات مؤثرة تثير العواطف والشجون.
يا الله مرَّ علينا كُلَّ هذا ومضى سريعًا، ومن دون أن ندري أو نتأمل أو نتفكَّر، حتى ورقة امتحانه أطالعها أتأمل ما كتب وما دوَّن عليها من إجابات، أعيد كرَّتي تلك مرة أخرى وأرقُب الزمان والمكان معًا. حتى اسمه الذي - كما أظن أنَّه - كان آخر ما كتبته يده اليمين، لم يعد لدينا بعدها ما نقدمه له، من العلم والعطاء والوصال أو أي شيءٍ غير الدعاء.
إنِّها أكبر حاجةٍ له منا وأعظم هدية، وأعطر وفاء نهديها له الآن، في ظلمة القبر ووحشته لتأنس بها روحه في وِحدته.. ولأنَّ (عايدَ خليف) قد قفز أمام ذاكرتي بغير إرادةٍ مني أو تنبيهٍ مسبق، وسيطر على قلمي وأهاج قريحتي وكراسة ذاكرتي وسنَّ سُلطان حرفي، وألهب مشاعري، فلم أجد حرجًا من أن أسلك هذا البوح وأخرجه لأُعَبِّر به عن أمل اللقاء في الجنان كما كان يشدو قبل رحيله.
يا عايد موعدنا بإذن الله معك في جنَّةُ الخلد.
بدر الفهد - معلم تربوي وصحافي