تحت سلطان الأفكار العقلية المتزنة، والمبادئ السامية، والنهج العلمي الراشد، سعينا من خلال عدة مقالات نشرناها في جريدة الجزيرة الغراء إلى الخوض في مواضيع تحالف الحضارات والتنوع الثقافي لنسج المفاهيم الصائبة
وإبرازها حتى تكون لبنة صلبة تتصدى لكل النزوات الضالة والأفكار المغرضة التي يروج لها دعاة التضليل والتعصب، لتحقيق السلام والأمن لكل البشر.
ولقد خلصنا إلى أنه لا يتصور انطلاقا من الرؤى المرجعية الإسلامية أن يتصارع الدين الإسلامي مع الدين النصراني أو الدين المسيحي أو أن تتصارع الثقافة الإسلامية مع الثقافة الأمريكية أو الفرنسية أو غيرها، بل يمكنها أن تتعايش على أساس التعارف والاعتراف المتبادل بالمصالح المختلفة والاهتمامات المتعددة والانفصال القيمي والمفهومي، وخلصنا أيضا إلى أن الانزلاق الكبير والمتعمد هو تحميل عبء الأوضاع المزرية التي تعرفها مناطق متعددة إلى الخصوصيات الحضارية أو الثقافية أو الخصوصيات الدينية أو على هذه الخصوصيات مجتمعة كما يروج لذلك الساسة الإسرائيليون في تبرير سياساتهم التنكيلية بالشعب الفلسطيني، ويتجاهل السياسيون والإستراتيجيون الغربيون دور السياسات الدولية، في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وما أدت إليه في الكثير من الأحيان من إدماج العالم في حركة واحدة، وما نجم عنها من توزيع غير عادل للموارد المادية والمعنوية معا.
والكتابة والحديث في هاته المواضيع يسعيان إلى ترسيخ الجامع المشترك وتذويب تضاريس اللا عقلانية والضغائن والأحقاد، ودراسة مواضيع شتى لخلق مرجعية فكرية هادفة تؤسس لأسرة إنسانية واحدة؛ ولكنها في نفس الوقت تتطرق إلى مواضيع جديدة معبرة عن أفكار ذوي العلم والإصلاح لاجتثاث المغالطات والجهل من جذوره وأصوله، ولتتكون من خلال ذلك كله شجرة العدل أصلها ثابت وفرعها في السماء، يستظل العقلاء بأوراقها، وينهلون من ثمارها الشافية، للقضاء على وباء الغطرسة والنزعات والأهواء الطائشة والعواطف المغرضة والانطباعات الذاتية والمعلومات الشائعة أو المشهورات التي تضل وتضل.
وفي هذا المجال قال المفكر الفلسطيني الأمريكي الراحل “إدوارد سعيد” إن انتشار الثقافة الأوروبية كانت طوال القرنين التاسع عشر والعشرين رهينة التواجد الفعلي لما كان يسمى “بالرجل الأبيض” داخل الفضاء الذي يرغب في غرس قيمه بداخله، ولكن الأمور تغيرت اليوم بسبب الحضور الإعلامي القادر على أن يمس شتى المجالات وخاصة على اقتحام اللا شعور. وعليه فإن المفكر الأمريكي “أنطوني سميث” يضيف: “بأن الإعلام قادر أكثر من أية تقنية أخرى على اقتحام الثقافات المتقبلة لهذا التأثير، والنتيجة أن فوضى عارمة يمكن أن تحل بسبب احتداد التناقضات الاجتماعية داخل دول العالم الثالث”.
وفي الحقيقة على حد وصف الباحثة سلسبيل قليبي فإن هذا الاقتحام الثقافي لا يحدث الفوضى فقط، بل يحدث كذلك خوفا من أن يرى الفرد مرجعياته وقيمه وهويته تلتها مرجعيات وقيم وهوية الغير كما فعلت عصى موسى عليه السلام بأفاعي السحرة.
وهذه المخاوف هي اليوم وراء ظهور وسواس جديد محوره سؤال وحيد هو “من أنا ؟”، وهذا ما أدى بالأستاذ سليم اللغماني إلى القول بأن “الخطاب حول الهوية هو ظاهرة العصر، ظاهرة عصرنا وبالتحديد ظاهرة أواخر القرن العشرين. فبالفعل منذ نهاية السبعينات (من القرن المنقضي) تحول مركز ثقل الخطاب الإيديولوجي والصراعات بحيث أن كلمات ك”هوية” و”أصالة” و”تراث” و”حداثة” هي التي أصبحت تغذي الحوارات على الساحة الاجتماعية وأصبحت الثقافة هي نفسها أيديولوجيا”.
ولهذا الخطاب حول الهوية حضور على حد سواء في المجتمعات التي تغزوها ثقافات أخرى بحكم آليات الإعلام المعاصرة وتلك التي تغزوها ثقافات غريبة عبر الموجات البشرية المهاجرة إليها. وهو بالتالي خطاب مشترك بين التيارات السياسية اليمينية المحافظة والمتطرفة أحيانا في الدول الغربية والحركات السياسية الأصولية المحافظة والمتطرفة هي الأخرى في الفضاء العربي الإسلامي.
وعليه فإن القانون والسياسة باعتبارهما مرآة للقيم يحملان تصورات لأنفسنا وللغير، وبالتالي لا يخرجان عن هذا التأرجح بين البحث عن الهوية والبحث عن الآفاق المشتركة التي تلتقي فيها كل الإنسانية.
وتضيف الباحثة أن الصراع حول القيم لا يرجع بالضرورة إلى اختلاف حضاري أو صراع بين ثقافات، بل إنه صراع قد يمزق نفس المجتمع وقد يطرح في نفس الثقافة وفي نفس الحضارة، ويمثل القضاء الأوروبي أفضل دليل على هذا.
فتطور الأنظمة الغربية من نمط قائم على سيادة القانون بحكم سيادة البرلمان إلى نظام يحتل فيه القاضي مكانا مركزيا على بقية السلط، يعكس وعيا بأن التشريع لم يعد ربما أفضل أسلوب لاحتواء الاختلاف حول القيم بحكم أن التشريع يتميز بعموميته وتجريده، وعليه فإن القاضي بحكم تعامله مع وقائع أقدر من غيره على ترجيح قيمة أو قيم على حساب أخرى، لكن بطبيعة الحال حسب ما تقتضيه مصالح راهنة دون إقصاء مسبق ولا نهائي لبقية القيم كما هو الشأن في معالجة التشريع لمثل هذه القضايا.
من جهة أخرى، نعتقد أن ربط الصراع بين القيم والحضارات هو أمر خطير إضافة إلى كونه علميا لا أساس له من الصحة. فهو خطير لأنه ضرب من ضروب الترتيب التفاضلي بين الثقافات والحضارات وهو الذي كان وراء الحركات الاستعمارية الأوروبية. وهو علميا لا أساس له من الصحة لأنه يقوم على نظرة إجمالية للحضارات والثقافات تحجب الثراء الذي تحمله كل ثقافة وكل حضارة، ثراء يفرز بالضرورة خلافات وصراعات داخلها قد لا تكون بالضرورة هدامة، بل بالعكس قد تكون سببا لمزيد ثرائها وازدهارها.
لقد عاد الغرب إلى تصوراته وهواجسه البالية والتي كانت وراء تحركه الاستعماري، ألا وهي تصنيف الشعوب إلى متحضرة وغير متحضرة، إلى مسالمة وغير مسالمة. وعليه فإن الغرب اليوم يتمادى في مشروعه القائم على رغبة في اقتحام فضاءات يعتبرها همجية وعلى “دمقرطة” أنظمة يعتبرها مستبدة. إنه غرب يسعى إلى علمنة فضاءات لا زالت ترفض الفصل بين الدين والدولة. والواقع أن هذه النقطة الأخيرة بالذات هي التي تثير إشكالا أكثر من غيرها. وعلى هذا الأساس يصبح من الصعب الجزم فيما إذا كان الإرهاب، وهو وباء القرن الواحد والعشرين، نتيجة لهذا النّكوص للمقاربة الغربية إلى عنفها المادّي، أم سببا له.
وفي ظل هذا الوضع الذي يمثل فيه العالم الثالث، من جهة، مصدر كل المخاوف، والغرب، من جهة ثانية، مصدر كل العنف رمزيا كان أم ماديا، يبدو أن ساعة التوصل إلى آفاق مشتركة لم تحلّ بعد.
فلا الغرب ولا العالم الثالث اليوم يهتمان لمعالجة دقيقة وموضوعية لثقافة الآخر، إذ كل منهما مسؤول عن بناء تصورات مشوهة حول الآخر.
فلا يكفي أن تدرك ضرورة التحاور، وهي ضرورة يمليها علينا اليوم أكثر من أي وقت مضى العنف المحيط بنا. فبنفس الشكل الذي أدركت فيه أوروبا في القرن السادس عشر ضرورة التعامل مع خلافاتها الدينية بسبل سلمية بعد أن أرهقتها الحروب، فإن الاحتكاك ببعضنا البعض على اختلاف أدياننا وأعراقنا وألسنتنا وثقافاتنا، والذي تفرضه علينا الحركية الديمغرافية من جهة، وآليات الاتصال الحديثة من جهة ثانية، يفرض علينا المسالمة والتسامح. وأقصد هنا ضرورة تعوّدنا على أن يحترم بعضنا البعض وأن نتقبل الآخر وأن نحترمه حتى إن لم يعجبنا نمط حياته.
هذه هي الضرورة التي نحن أمامها وهي ضرورة مشروطة بحوار، لكن هذا الأخير لن يكون بدوره صادقا ولا مجديا إلا إذا تم في كنف السكينة تضيف الأستاذة سلسبيل قليبي، وتمكن كل واحد منا من أن يتصالح مع نفسه ومع تاريخه، أي أن يعترف بكل أوجه العنف التي كان ضحيتها، وكذلك أوجه العنف التي سلطها على الآخر من استعمار وعبودية وإرهاب وتطرف ديني.