بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية استقرت قُوى العالم في معسكرين غالبين، واستقر التقسيم الثلاثي: العالم المتقدم، والعالم النامي، والعالم المتخلف.. واستقر بذلك النظام الدُّولي، وعلى الرُّغْم مما فيه من إجحاف وظلم للعالَمين الأخيرين..
.. فقد كان أرحم من نظام العلمنة بعدما صارت القوة المسيطرة معسكراً واحداً لا معسكرين؛ لأن النظام الأول على الورق كان مُرْضياً مَن تقوم سياستهم على المعادلة بين القدرة وعدم القدرة، وبين المصالح والمفاسد؛ فالدول العربية والإسلامية التي لم يَمُرَّ عليها الاستعمار (وهي المملكة العربية السعودية، واليمن، وأفغانستان في عهد الملكية) لا ينالها تدخُّلٌ أو إكراه في إقامة نظامها الداخلي، وكانت الأقليات في البلدان الأخرى على النظام الدولي تُعطَى حقوقها ولا تُؤْذَى حريةُ الأكثرية، وذلك مع السعي الظلامي الظالم في زرع التعددية؛ ولهذا أُحكم عليها الحصار بأن لا يقوم فيها حكم يُلَبِّي هُوِيَّتها التاريخية التي يحنُّ إليها الجمهور؛ وذلك بتوالي الثورات الباطشة تحت شعار القومية بغير شرطها التاريخي، أو الوطنية الضيِّقة، أو الاشتراكية، أو الماركسية، أو البعثية الصليبية.. وكانت الحريات الأربع التي أعلنها الحلفاء تُنَفَّذ على استحياء، وكانت حرية الأديان محفوظة.. وأما التطبيق الصارم لمواد النظام الدولي فقد كان من أجل حِفْظ التوازن بين الدول القوية؛ إشفاقاً من حرب عالمية ثالثة؛ فلما أفرز قيام المعسكر الواحد نظاماً عالمياً واحداً تُدِيره الصهيونية العالمية أصبح النظام الدولي حبراً على ورق؛ فكانت الأمة الإسلامية وحدها هي المستهدَفة طمعاً في مواردها وإستراتيجيتها بالمنطق التحليلي النفعي، وقهراً لِـهُوِيتها التاريخية بالمنطق الأيديولوجي - والغالب فيه أيديولوجية لاهوت وضعي لخدمة الصهيونية -، وكان التوازن الدُّولي وقْفاً على الدول المتنفِّذة؛ فأصبح المعسكر الواحد شريكاً لكل الدول القوية في المنافع التحليلية وإن كان له نصيب الأسد، وبالمنطق الأيديولوجي كان التدليل لمن لا دين له، ولمن دينه وثني، وللطائفية المزروعة.. واستجدَّ في الخطاب الإعلامي مفرداتٌ وجُمَلٌ تلَقَّيناها بمضمون تضليلي غير مضمونها اللغوي مثل (الاعتراف بالآخر)؛ فإن كان الآخر القُوى العالمية المتنفِّذة فهي ليست بحاجة إلى اعترافنا بوجودها المتسلِّط؛ وإنما يعني (الاعتراف بالآخر) أن نَقْبل إكراهَها وتمزيقها هُوِيتنا في الداخل، وكلما حصل من الأمة تنازل أُكْرهت على تنازل آخر !!.. ولا أفقه ولا يفقه العقلاء من (الاعتراف بالآخر) ههنا سوى الحوار الفكري الصادق الذي يتيح الدعوة السلمية إلى الحق والخير.. وبالمعنى التضليلي صار الاعتراف بالآخر يعني تغيب (الدعوة السلمية)، وإحضارَ سيادةِ (الدعوة التسويلية الإباحية)؛ وهذا أخصب مَنْبت للإرهاب غير العاقل الذي جعل من الأمة المُكْرَهَةِ شرائحَ انتحارية.. وإذا اسْتُعْمِل (الاعتراف بالآخر) في حق الأقلية من طائفة تاريخية غُذِّيت، وطائفية جديدة زُرعت؛ فالمعنى التضليلي الذي هو خلاف القانون الدولي الذي يرعى حقوقها: يعني تجاوز حقوقها بأن تكون ذات النفوذ على الأكثرية، وذات الهيمنة على حريتها وهويتها التاريخية.. ويهمني في هذه العجالة الطائفية التاريخية والطائفية المزروعة التي قابلتْها أمتنا بجبنٍ سياسي؛ فلا تقوى على إعلان التفريق مصارحةً بين العدو المنافق والصديق الذي هو ابن هويتنا؛ والسر في ذلك أن علماءنا الربانيين السابقين تورُّعاً منهم بيَّنوا ضلال ما ظهر لهم من بعض الفرق الضالة، ولم يخرجوهم من دائرة أهل القبلة كالإمام ابن تيمية في منهاج السنة وإن كان أعلن القول الصراح عن بعض الباطنية، وكان الإمام ابن حزم أكثر مصارحة في الفِصَل وفي كتابه الآخر (النصائح المنجية)؛ والسر في ذلك أن أهل الهوية التاريخية وإن كانوا دويلات ذوو وحدة تلقائية أمام الأخطار، وهم الأكثرية، وسيادة أمتهم غير مجروحة.. والأغيار (ذوو تَقِيَّة) لم يتظاهروا بما يخرجهم من دائرة أهل القبلة.. ولو أدرك الإمام ابن تيمية مثل تأليف (بحر الأنوار)، أو ما استجدَّ من فتاوى سأذكر بعضها إن شاء الله: لَألْحقهم بفروع الباطنية الأخرى؛ لأنه لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولم يعرف الجبن السياسي قط.. ولما تجرَّد المعسكر الواحد للتكالب على أمتنا في ديارها ومنافعها وَهُوِيَّتها: كان ذلك المعسكر على وعي بفاعلية الباطنية في خدمته من أجل تمزيق الأمة؛ فدسَّ أقطاباً منهم في المناصب القيادية بديار العرب والمسلمين، وقوَّى الخطاب الإعلامي مِن أجل إلغاء مادة الكاف والفاء ذات الواحدة من فوق والراء المهملة كأنه لا وجود لها في لغات العالم، وكأنه لا وجود لأحكامها في ملة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام؛ لِيُقنع القطيع من الأكثرية بأنهم إخواننا المناصرون لنا في إعادة هُوِيتنا؛ فأعلنوا في الظاهر عداءً شديداً للقوة الباطشة منذ سقوط الشاه؛ فكانت مقولة: محاربة (الاستكبار في الأرض)، ومقولة (خَيْبَرْ خيبر يايهود)، وأعطوهم مكسباً دعائياً بإطلاق صورايخ بدائية في أطراف الشمال الغربي من الأرض المحتلة باتفاق مُسْبق مع الصهيونية بأن يكون وقوعها على فضاء لس فيه مرافق ولا بشر؛ ولهذا اتخذهم كثير من الحركيين في أمتنا وليجة بينهم وبين هويتهم.. وكان المفاعل النووي الموهوم للطائفيين خطراً مُرَوِّعاً للمعسكر الواحد حسب البث الإعلامي، ولكن ما العذر اليوم في مصانعة بعض الحركيين لهم بعد انكشاف الغطاء ؟!.. فها هي الباطنية صَفٌّ واحد مع الصهيونية وروسيا والصين وكوريا في إحراق بلاد الشام بعد ابتلاع العراق، وتعرية الشرق من قوة رادعة تدْرأُ خطر الصهيونية، بل أرادوا العراق والشام حماية وردئاً لمغتصبي الأرض المحتلة، ولتقوية الحلف الصليبي الطائفي.. وبالمنطق اللاهوتي الوضعي يأبى الآلاف من يهود الشتات الخروج من معسكر الطائفيين بانتظار الملك الداوودي بمصطلح الصهيونية، وهو عيسى بن مريم عليه السلام بالتضليل الصهيوني الذي جعل الأَحَدِيِّين سَّبْتيِّين، وهو المسيح الأعور الدجال مَهْدِيُ الطائفيين، وفي الدين الصحيح الخالد أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام هو الذي سينزل من السماء؛ فيحكم بشرع أخيه محمد صلى الله عليهما وسلم، وهو الذي سيقتل الأعور المسيح الدجال.. وأذكر ههنا باقتضاب شيئاً يسيراً يُبَيِّن مدى صلة الباطنية بهويتنا مكتفياً بجانب من الفتوى، وأما الكيد التاريخي فرحابه واسعة في كتب التاريخ؛ فمن فتاوى الباطنية أذكر هاتين الفتويين الموجزتين من فتاوى كثير من المَلالي المتنفذين:
الفتوى الأولى - وقد سحبوها من مواقعهم، ولكنها انتشرت وذاعت -: أن دولة الملالي ثاني دولة في العالم عُنيتْ ونجحت في ابتداع الجنس الثالث تمويلاً وقدرة علمية؛ فقال ذوو الوليجة من دون الله: المراد (الخُنثى المشكل) الذي يُقسم له في الإرث على أنه ذكر، ويقسم له على أنه أُنثى، فيحجز له الأكثر حتى تتبين حاله !!.. ولكن الواقع صَفَقَهم على وجوههم؛ لأن (الخنثى المشكل) أندر من الكبريت الأحمر في المجتمع الواحد، ولأن إبداعهم الجنس الثالث شمل جمعاً غفيراً؛ فصار عبدالحسين الذي لا يُشَكُّ في ذكوريته (ليلى) بالهرمونات والأصباغ؛ فيا عباد الله هل من ملة المسلمين أن نَعْبُدَ الشيطان لَمَّا توعَّد بقوله كما قص الله عنه: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} (119) سورة النساء ؟!.. وهل من ملة المسلمين أن نستبيح ما حرم الله - مع أن الفعل بدون إباحة من الكبائر السبع الموبقات، وليس كفراً - ؟!.. وهل ابتداع الجنس الثالث إلا للواط، لأن عبدالحسين لما حُوِّل إلى ليلى اكتسب شهوة النساء، ولكن من الدبر، فكان مُعَدّاً إباحة ً لهذا ؟.. وهل سيظل الجبن السياسي، ومقولة (الاعتراف بالآخر) بمعناه التضليلي على هذا السبات العميق؛ فلا نصدع بالحق، ونعرف مَن هو العدو ومَن الصديق، ولا سيما لما انكشف ما وراء التَّقية مما لم يُشاهده الأسلاف كالإمامين ابن حزم وابن تيمية ؟.
والفتوى الثانية - ولم تُحجب بَعْدُ، وهي على لسان زعيم من الملالي -: أن من نكح مومساً بنية التمتُّع فذلك مباح؛ فأسقطوا الزنى معنىً وحكماً، وأصبح اللقيط ابناً شرعياً، وألغوا براءة الرحم، وألغوا هداية الشرع بأن الخبيثين للخبيثات.
قال أبو عبدالرحمن: أُذِكِّر بهذا جميع إخواني من أهل القبلة بما فيهم من بعض الحركيين وأتباعهم الأقزام لعلهم يخلعون جلباب (الجبن السياسي)، ويُسمُّون الأشياء بأسمائها، ولا يجعلوا عدوَّ هُوِيتهم وليجة يركنون إليها، وإنني لأرجو من الزعيم الكريم محمد مرسي خيراً كثيراً؛ فما أكرم وعيه !!.
ومن فرق الباطنية الجديدة - وهي تربية استعمارية، ودين صهيوني وضعي - شرائح بدأت تنتشر في العالم العربي والإسلامي تدريجياً، وصار لها باسم المواطنة الإكراهية مناصب قيادية بخلاف النظام الدولي حول الأقلية غير الطارئة، ولقد أُغلق مَحْفلهم في مصر بقرار جمهوري برقم 236 في 1960 م، وعددهم في الولايات المتحدة مليونان.. ودينهم الوضعي أمشاج لا حصر لها، ومن عناصر دينهم أن الإسلام منسوخ بنبيهم، ومع هذا فنصوص الإسلام مُؤولة بدعاوى ليست من علم الدلالة بلغة الشرع كصرف معنى الجنة والنار إلى وجدان في النفس لا غير، وأن المال والنساء حق مشاع بلا قانون، والصيام تسعة عشر يوماً (وعِدَّة الشهر عندهم تسعة عشر يوماً )، والعام تسعة عشر شهراً، ثم يُختم الصيام بعيد النيروز المجوسي.. إلخ.. إلخ.. وأهل القبلة من أهل السنة والأشعرية والماتريدية والمرجئة وصالحي المعتزلة يكون الحوار معهم هادئاً بإظهار البرهان وطَلَبِه، وتعنيف الالتزام باللازم القبيح الذي لا يستطيع المعارِض دفعه، ثم يقف الأمر عند هذا الحدِّ مع الإلحاف بالدعاء أن يهدي الله الضال، وأن يجمع كلمتهم على التقوى مِن دون أن تنفصل رابطة العناصر المشتركة في سيادة هوية الأمة.. ولقد رأى الناس بمشاهدة لا لبس فيها: أن (اتحاد الصف قبل اتحاد الهدف) هو باعث هذا الشتات الذي نعيشه في أرضنا؛ فأفلس هذا الشعار عند عبدالناصر، ثم تبناه الحركيون بتحوير ساذَج فكان نكبة لأمَّتنا يترجمها الواقع؛ فالصف لا يتحد على هدف يرفع الفِرْقة، وإنما هو هدف واحد لإسقاط حاكم، أو لإطلاق حرية، أو لطلب سعة في الرزق؛ فإذا سقط ما يُظن أنه سقط من ذلك الهدف بقي الصراع الدموي بين الأديان والمذاهب والأيديولوجيات الوضعية.. هذا واقع ماثل الآن بعد سقوط القذافي، وواقع منذر بالخطر بعد سقوط النصيرية، وهو واقع خاسئ إن شاء الله في أرض الكنانة، بالله، ثم بحكمة القائد محمد مرسي، ثم بالأكثرية الكاثرة من الشعب، ثم بالانتخاب الذي يعترف به النظام الدولي.. وهو انتخاب يحفظ للأقليات حقوقها بمقتضى شرع الله والنظام الدولي المناصر له تلقائياً، وهو يأبى هَدْم الهُوِيَّة التاريخية لجمهور الأمة.. وإخواننا أهل القبلة يعلمون أن الله عاصم هذه الهُوِيَّة بعدوٍّ مِن سوى أنفسها؛ فلا بد من الدعوة العلمية الفكرية السلمية الهادئة في الإعلام مُواجَهةً بالتي هي أحسن لهذا لإرهاب الإعلامي التضليلي الذي غيَّب الدعوة بتربيالمصلحين، وتبنَّى التسويل بالشهوات والشبهات.. وفي مملكتنا التي كانت لا تعرف التعددية مسؤولية كبيرِي الأسر، وزعماء القبائل، ووجهاء البلدان.. وهي مسؤولية يجب أن تساند مسؤولية الدولة التي هي عين ساهرة ونحن نشبع نوماً هادئاً؛ فمن مسؤوليتهم إحياء وازع (الحياء في المجتمع) الذي يردُّ الشارد إلى الجماعة، والأخذ على يد السفهاء؛ فإذا عجزوا عن إصلاحهم تبرأوا منهم علناً براءةً تُظْهر إجماع الأمة على البراءة من الشاذ المعادي هُوِيَّتها؛ فيسقط الإكراه العالمي، وينجح وازع الدولة الوقائي والعلاجي، ونكون في عصمة من الله عن استئصالنا بعدوٍّ من أنفسنا.. ولا بد من مخاطبة القلب والعقل بعطاء علمي فكري، وبلسان ذي سيرة عطرة، وبإظهار الحبِّ لابن الأمة الشاذِّ عن الركب، والخوف عليه والتضحية بالنفيس والغالي من أجل هدايته:
يا قادة الفكر لو لَمُّوا صفوفَهَمْ
يا قادة الشعر لو لم يكثر العددُ
وإلى لقاء إن شاء الله، والله المستعان.