يمكن تعريف الوعي بأنه تحول الانطباعات والمعارف وكل المعلومات المختزنة في الذاكرة من خلال الإدراك والفهم والتفاعل إلى حالة ذهنية قابلة للانعكاس إلى الخارج لصياغة أنماط السلوك عند الإنسان. فالوعي يوجه السلوك. وعلى سبيل المثال فإن الجهد الذي نبذله -بشتى الطرق- للوصول إلى درجة من الوعي الصحي نسميه (توعية). فما هو الهدف من هذه التوعية (الصحية)؟
إنه تغيير السلوك الخطأ وإعادة صياغته إلى سلوك صحي. ومعلوم أن استقبال الانطباعات والمعارف واختزانها في الذاكرة - سواء بطريق التعلم بالتلقي المباشر أو بطرق أخرى كالمشاهدة والمسايرة (التقليد والاتباع) - لا يكفي للوصول إلى درجة الوعي الناضج بدون فهم ما تم استقباله والتفاعل معه ذهنياً (الاقتناع) أو نفسياً عاطفياً (الإعجاب بالقدوة، التأثر الانفعالي بالحدث أو الحديث) أو جسمياً وحسياً (التأذي أو التعرض للخطر). وأفضل مثال نضربه لذلك لوضوحه وبساطته هو الطفل الصغير الذي تحذره أمه من لمس إبريق الشاي الحار (التعلم بالتلقي المباشر!) لكنه لا يعبأ بتحذير أمه بل يثور فيه الفضول فهو يغافلها (أو يعاندها) ويلمس في إحدى المرات غطاء الإبريق الحار فيؤلمه، وعندئذ يعي حقيقة تحذير أمه، وينعكس ذلك في سلوكه فيتجنب من نفسه لمس أي شيء يعلم أنه حار. ويمكننا أن نقيس على هذا المثال ما يواجهنا في الكثير من شؤون حياتنا. ففي حال استقبال المعلومات عن طريق المشاهدة لا يمكن أن ينتج وعي دون فهم وتفاعل.وعلى سبيل المثال فإن مشاهدة حطام السيارات المصدومة على جوانب الطرق لم تمنع تهور بعض السائقين؛ ذلك لأنهم لم ينفعلوا أو يتأثروا بما شاهدوه، أي لم يحدث التفاعل الذي يبلغ بوعيهم درجة يمكن معها توجيه سلوكهم. لكن قصور الوعي هنا يتلاشى إذا أدركوا أنهم سيمرون بنقطة (ساهر) ويدفعون غرامة ثقيلة إذا تجاوزوا السرعة المحددة ! وهكذا فإن الدافع أحدث التفاعل الذي ترجم الوعي إلى السلوك المرغوب ؛ ففي حالة الطفل كان الدافع هو الخوف من الألم، وفي حالة السائق الخوف من العقوبة المالية المؤكدة. وما يقال عن السلوك الفردي ينطبق على السلوك الجمعي الذي يمارسه المجتمع أو جزء منه. إلا أن السلوك الجمعي هو مرآة للثقافة السائدة في المجتمع بجميع عناصرها من مبادئ وأحكام دينية ومفاهيم أخلاقية ومن عادات وتقاليد ومن تراث فكري وفني وأدبي. لذلك يستقبل الفرد منذ سنته الأولى سيلاً لا ينقطع من مختلف أنواع الانطباعات والمعارف والمعلومات عن طريق ما يصل إلى سمعه وبصره وجميع حواسه من تعاليم وإرشادات وأوامر وأفكار ومما يراه من عادات وتقاليد وما يتعلمه من دروس وأنشطة وتجارب ونحو ذلك مما يصدر من البيت أو المدرسة أو المسجد أو الحكومة أو مكونات المجتمع الأخرى. وبعض ما يستقبله الذهن يندثر أو يظل مختزناً وهامداً في الذاكرة وبعضه ينصهر في الوجدان إيماناً خالصاًوبعضه يكون حاضراً في الوعي بدرجة تختلف باختلاف الفهم والتراكمات والأساليب التربوية التي نشأ عليها والدوافع التي تحدث تفاعلاً يترجم الوعي إلى سلوك. وقد اعتدنا - عندما نلاحظ أنماطاً من السلوك الجمعي متخلفة عما وصلنا إليه من تقدم مادي وتقني- أن ننعتها بأنها سلوك غير حضاري وننحى باللائمة على قصور الوعي، وكان الأحرى بنا أن نوجه الاهتمام إلى قصور البنية الأساسية للوعي التي يمثل التعليم العام قاعدتها الكبرى ؛ ذلك لأنه يشمل جميع طبقات المجتمع ومكوناته ويهيئ الذهن لاستقبال الكم الكبير من المعلومات المتنوعة منذ الصغر. ويتوقع أن يقود انتشار التعليم العام وانحسار الأمية إلى اختفاء مظاهر السلوك غير الحضاري. ويتبين مدى انتشار التعليم من انخفاض نسبة الأمية في سن التعليم من 60% عام 1391هـ إلى 13.7% عام 1429هـ (د. أحمد العيسى: إصلاح التعليم في السعودية 2010). ومع ذلك لا تزال نماذج من السلوك غير الحضاري تمارس في وقتنا الحاضر ولم تفلح ثلاثون سنة من تطور التعليم في إزالتها.
وهذه أمثلة منها:
1 - من أساليب القيادة والتعامل مع أنظمة المرور أن بعض الناس يوقفون سياراتهم متراصة ومتكومة أمام أماكن عامة مثل المطاعم السريعة والجوازات والجوامع بطريقة تضيق على السيارات العابرة أو تحجزها وأن بعضهم يقتحم صف السيارات المنتظرة أمام الإشارة أو مدخل الطريق من الجنب لكيلا يكون في آخر الصف وأن بعضهم ينحرف أمام الإشارة مباشرة من اليمين ليأخذ اتجاه اليسار أو للدوران. الجميع يعرفون الأنظمة فهل يعونها؟ وإن كانوا يعونها فلماذا لا ينعكس ذلك على سلوكهم؟
2 - عدم مراعاة النظافة في الأماكن العامة مثل الحدائق والمتنزهات البلدية والبرية ودورات المياه في المساجد والمدارس والمرافق الصحية ومحطات الطرق البرية. حظ هذه الأماكن هو اللامبالاة من مستخدميها ومن المشرفين عليها.
3 - التحايل على الأنظمة أو لوائحها وإجراءاتها أو الالتفاف عليها أو التهاون في الامتثال لها إما ازدراء لها لعدم الاقتناع أو بدافع تغليب المصلحة الشخصية أو شعوراً بعلو الذات أو اقتداء بما يفعله الآخرون، ويلجأ المتحايلون للتطبيق الصوري أو للواسطة. من أمثلة ذلك التوظيف الصوري في بعض المؤسسات الخاصة للإيهام بتحقيق نسبة السعودة المطلوبة، أو التستر أو استقدام العمالة ثم تسريحهم في السوق أو التأمين الصوري لغرض الحصول على الإقامة.
4 - التعصب والتشنج في الانتماء الطائفي أو المذهبي أو القبلي أو المهني أو الطبقي من شأنه أن يسلم القياد للعاطفة العمياء التي تفتح الطريق - في التعامل مع الآخرين- إما للنزعات البدائية مثل الكراهية وحب الذات أو للأحكام السلبية المسبقة، وتسد الطريق أمام الإدراك المتعقل والوعي الناضج بأن القيم الأخلاقية ليست نسبية أو قابلة للتجزئة والتقسيم.
يتبع...........