هاكم حقيقتين:
الحقيقة الأولى: الإنسان كائن اجتماعي.
الحقيقة الثانية: أحد العلماء يعشق الوز. نعم، ولِمَ لا؟ قد يكون العالم متخصصاً في أشياء علمية موضوعية ولكن لا يمنع هذا أن يُركّز على كائن بالذات يحبه!
هل هناك رابط بين هاتين الحقيقتين؟ ما ذكرته جزء من مجال معين، وهو الاجتماعية بين الكائنات، فقد راقب العلماء الحيوانات منذ أن تولد أو تفقس ليدرسوا اجتماعيتها، وركزوا هنا بالذات على طريقة تعاملها مع والداتها. أحد العلماء هؤلاء -الذي ذكرته- يعشق الوز منذ طفولته فقرر التخصص في دراستها ولاحظ أنها دائماً تتبع أمها، رأى أنها تراقب أمها منذ أن تفقس فإذا رأتها تتحرك تبعتها بشكل تلقائي، ومجرد الحركة هي دليلها، واعتماداً على هذا العامل استطاع الناس أن يخدعوا بعض الحيوانات المسكينة ويوهمونها أن أمها إنسان أو حتى جماد. وهذا المجال يحوي التجربة التي لطالما أراد العلماء تجربتها على البشر ولم يمنعهم إلا خوفهم من العواقب القانونية، ولهذا يسمونها «التجربة المحَرَّمة»!
ما هي التجربة المُحرَّمة؟ إنها أن يُرَبَّى الأطفال في بيئة خالية من الكبار بحيث يراقبهم العلماء من حيث لا يشعرون ليدرسوا كيفية تخاطبهم وتواصلهم، خاصة لرؤية نشأة اللغة. هذه لطالما أثارت شهية العلماء الذين يتعطشون لمعرفة كيفية تواصل البشر مع بعضهم فيما لو نشؤوا بدون أن يتعلموا اللغة من أهلهم، وبسبب تبعاتها القانونية فإنها لم تُطبَّق في العصر الحديث ولا نعلم إلا تجارب نادرة في السابق، منها تجربة للملك فردريك الثاني في القرن الثالث عشر في جنوب إيطاليا، فالملك يتكلم عدة لغات ورغب معرفة اللغة الطبيعية للبشر، يقول المؤرخ الذي رافق الملك ودوَّنَ التجربة: «أمَرَ الملك بعض النسوة بإرضاع هؤلاء الرضع وتنظيفهم ولكن لا يتحدَّثْنَ أمامهم بأي كلمة، وأراد معرفة هل سيتحدث الأطفال العبرية أو اليونانية أو اللاتينية أو العربية أو ربما لغة آبائهم»، انتهى النقل. لكن لم تُتَح الفرصة لفردريك أن يعرف، فقد مات كل الأطفال قبل أن ينطقوا كلمة. لماذا؟ ربما القصة التالية توضح السبب، فبعد 800 سنة من هذا تكررت التجربة في الأربعينات من القرن الماضي في باريس، ودرس العالم النفسي رينيه سبيتز آثارها، فراقب المواليد الذين توفيت أمهاتهم أو ذهبنَ للسجن وصار المواليد في دور الرعاية وملاجئ الأيتام، فكانت تأتيهم العناية بالنظافة والأكل ولكن كانوا منفردين، لأن نظرية باستر عن الجراثيم بدأت تشتهر وأرادوا عزل الأطفال عن أي احتكاك ممكن مع الناس إلى أن يكبروا. ماذا حصل؟ رغم التغذية الجيدة والتعقيم والنظافة بدأ الأطفال يضعفون وينحفون وينطوون حتى مات كثير منهم، والغريب أنهم صاروا أكثر عرضة للعدوى التي عُزِلوا ليُحفَظوا منها أصلاً. هذا نفس ما حصل مع تجربة فردريك، فهؤلاء الرُضَّع الذين أوكل الملك إلى النسوة إرضاعهم ومراقبتهم لم يعيشوا أكثر من أشهر وماتوا قبل أن يستطيعوا الكلام، وأظهرت هذه التجارب حقيقة: أن الإنسان يحتاج التواصل مع الناس منذ ولادته، وأن حرمان الرضيع والطفل من الكلام واللعب والتخاطب يقتله بمعنى الكلمة.
دائماً يقال أن الإنسان كائن اجتماعي، سمعتها كثيراً منذ صغري، لكن لم أدرك مدى ترَسُّخ هذه الحقيقة في الطبيعة البشرية وأنها حاجة ماسّة لا يستغني عنها الإنسان ولا الكثير من الكائنات الأخرى إلا بعد هذه التجارب، والتي رغم نتائجها السلبية إلا أنها أعطتنا على الأقل فائدة واحدة، لعلنا نستفيد منها.