عظماء التاريخ الأفذاذ لا تنتهي أعمالهم، ولا تزول مآثرهم بمجرد رحيل أشخاصهم، فمهما طال الزمن على رحيلهم وتعاقب الأجيال من بعدهم فإن ذكرهم العاطر، وأعمالهم الجليلة، ومآثرهم العظيمة، باقية مشرقة في سفر الخلود وذاكرة التاريخ، تشهدها الأجيال القادمة على مَرِ العصور، جيلاً بعد جيل، وأمةً بعد أمة.
وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز - رحمه الله رحمة واسعة - أحد هؤلاء العظماء الأفذاذ الذين وقف لهم التاريخ الإنساني احتراماً لقاماتهم السامقة، وإعجاباً بأعمالهم الجليلة، فدخلوه من أوسع أبوابه ليسطّر لهم بمداد الفخر في صفحاته المشرقة أثراً خالداً، وذكراً عاطراً، ومجداً مؤثلاً.
ونحن عندما نتحدث عن سموه الكريم - رحمه الله - فإنما نتحدث عن سِفْرٍ عظيمٍ من المآثر الإنسانية، والإنجازات الشامخة، والمواقف النبيلة الصامدة لنصرة الحق ودحض الظلم، والوقوف بحزمٍ في مواجهة الإرهاب وقمع العابثين بأمن الوطن واستقرار المواطن.
والحديث عن فقيد الوطن نايف الأمن والحكمة، لا يتوقف عند حد معين ولا ينتهي بزمن محدد، فالمواقف التي تذكّرنا به - رحمه الله - كثيرة وكثيرة جداً، فنحن نتذكره في كل مجال فيه خير الوطن وراحة المواطن، نتذكّره شريكاً مع ملوك هذه البلاد في بناءِ نهضتها واستقرارها، ونتذكّره في مجال الأمن الذي كان يرعاه على مدى ما يقارب نصف قرن من الزمن، ونتذكّره سيفاً من سيوف الحق قطع الله به دابر الإرهاب وقهر به الفكر المنحرف الذي كان يستهدف أمن بلادنا ووحدة شعبها، ونتذكّره منافحاً عن العقيدة الإسلامية السمحة ومدافعاً عن السنة النبوية الشريفة، ونتذكّره في كثيرٍ من المواقف الإنسانية التي لا يقدر عليها إلا عظماء الرجال، ونتذكّره... ولن ننساه، ولن ننسى طلته علينا في مثل هذه الأيام المباركة من كل عام، مطمئناً الوطن والأمة الإسلامية عن أمن وراحة ضيوف الرحمن، ومتصدياً للأباطيل التي قد يثيرها البعض حول استقرار الحج وطمأنينة الحجاج.
تلك الطلة البهية التي فقدنا مشاهدتها في موسم هذا العام، وفقد معها حديث صاحبها ونبرة صوته الهادئة المحببة إلى النفوس، وهو يجيب على أسئلة الصحافيين خلال المؤتمر الصحفي الذي يعقده سنوياً في موسم الحج، فكم كنا نستمع له متحدثاً بليغاً! وخطيباً مصقعاً! ومفنداً حكيماً، وكم كنا نستمع لكلماته المؤثّرة! وتصريحاته الهادفة التي كانت توضح الحقائق، وتُلجم الحاقدين، وتُسعد كل مواطن غيور على دينه، وأمته، ووطنه.
فلله ما أخذ ولله ما أعطى، وقد عوّضنا الله سبحانه وتعالى عن نايف بنايف مثله، عوّضنا بسلفه وشقيقه وذراعه الأيمن أحمد بن عبد العزيز، الذي قد نهل من معينه، واستقى من مورده، وسار على نهجه، وكأنّ نايف الأمن والأمان موجود بيننا بأفعاله وأعماله وسيرته، فالأمن والأمان نفسهما باقيان، ونحن نعيشهما بفضل الله، وسيبقيان محفوظين في أيدٍ أمينة ما دامت هذه البلاد تحكّم شرع الله وتطبّق منهج نبيه صلى الله عليه وسلم.
فما أفل من نجم إلا وبزغ آخر! و ما غاب من كوكب إلا وبان كوكب مثله! فهنيئا لهذه البلاد المباركة برجالها الأوفياء، وقادتها الأعلام الذين يتوارثون المجد وينهجون نهج أسلافهم الكرام في تطبيق شرع الله وإقامة عدله، فإذا غاب منهم سيّد قام سيّد، وكأنهم المعنيون بقول الشاعر:
هينون لينون أيسار ذوو يسرٍ
سُوَّاس مكرمة أبناء أيسارِ
من تلق منهم تقل لاقيتَ سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري
تلك هي مآثر نايف بن عبد العزيز، وأعماله التي تذكّرنا به، إلى جانب سمو خلقه وحكمته وثاقب نظره، ورؤيته لما يحيط بأمته وما ينبغي أن يكون عليه أبناء وطنه، وقد سمعتُ حديثاً مسجلاً لسموه الكريم، اطلعتُ عليه صدفةً عندما كنتُ أتصفح بعض ما كتب عنه - رحمه الله - في مواقع الشبكة العنكبوتية youtub «1»، فشدني كثيراً وتأثرتُ به أيما تأثر، وهو حديثٌ جديرٌ بأن نرجع إليه، وأن نُدرك أبعاده، ونفهم مراميه، ونعمل على تطبيقه.
إنه لحديثٌ مؤثرٌ حقاً، وإنها لأعمال جليلة ومآثر عظيمة، رحل فارسها وبقيت هي شاهدةً ماثلة، نلمسها في واقع حياتنا ونقرؤها في ذاكرة وطننا.
ذلكم الحديث، وتلكمُ المآثر بتداعياتها وذكرياتها، كان من وَحيِها حضور هذا النص الشعري الذي أتى طائعاً منقاداً ليخرج للقارئ الكريم كما أتى:
ستبقى في القلوب
سَتَبقَى فِي القُلُوبِ وَفِي المآقِي
رَفِيعَ القَدرِ مَحمُودَ الخَلاَقِ
فَذِكْرُكَ لا يُوَارِيهِ رَحِيلٌ
وَحُبُكَ لا يُغَيَبُ بالفِرَاقِ
ولَنْ نَنسَاكَ نَايفُ مَاحَيِينَا
فَنَهجُكَ ثَابتٌ وَ العَهدُ بَاقِ
مَسِيرَتُكُم يُواصِلُها رِجَالٌ
أقَامُوهَا عَلى قَدَمٍ وَسَاقِ
رِجَالٌ مِن مَعِينِكَ أُشرِبُوهَا
بِصَافِيَةِ المَشَارِبِ وَالمَسَاقِي
زَرَعتَ العَدلَ والإيمَانَ فِيهِم
فَسَارُوا لَلْفَضِيلَةِ فِي سِبَاقِ
وَسَلَمتَ الأَمَانَةَ، فَهي تُرعَى
كما كَانَت عَلَى أَيدٍ وِثاقِ
تلَقَاهَا مِنَ الأخيَارِ شَهمٌ
وَشَهمٌ صَانَها صَونَ الحِدَاقِ
فَسَلْمَانُ استَوى العَهدُ إليهِ
وَأَحمَدُ فِي يَديهِ الأَمنُ بَاقِ
فَطِب فِي جِيرَةِ الرَحمَنِ، يُرجَى
لَكَ الغُفْرَانُ فِي يَومِ التَلاقِي
قَرِيرَ العَينِ فِي جَنَاتِ عَدنٍ
بِصَحبَةِ مَن سَعى فَوقَ البُرَاقِ
عَلَيكَ سَحَائِبُ الرَحَمَاتِ تَتْرَى
بِرِضوانٍ وَكاسَاتٍ دِهَاقِ
* رئيس فرع هيئة التحقيق والادّعاء العام بمنطقة المدينة المنورة
(1) الرابط لنص الكلمة السامية لمن أراد الاطلاع عليها: www.youtube.com/watch?v=kzt1m0s8zsu