* تتقدم المملكة في جوانب عديدة ومجالات مختلفة، إلا شيء واحد تظل فيه متأخرة كثيراً على المستوى الدولي والمستوى الإقليمي رغم أهميته الكبيرة، وهو عدم توافر مراكز تفكير في المملكة تفكر وتبحث وتخطط وتقترح للمستقبل.. ويظل هذا التراجع في
هذا الجانب مثار تساؤل محير لماذا لا نزال متأخرين في تأسيس مراكز تفكير وطنية كبرى تخدم السياسات السعودية الداخلية والخارجية.
* في العالم يوجد أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة مركز دراسات تفكير إستراتيجي، نصفها أو معظمها في الولايات المتحدة، ولكن تنتشر هذه المراكز في دول كثيرة من دول العالم، بما فيها بعض دول المنطقة المحيطة بنا.. وللتدليل على أهمية مثل هذه المراكز ودورها في خدمة السياسات المحلية والوطنية والدولية للدولة التي تقع فيها هذه المراكز فيوجد في إسرائيل أكثر من عشرين مركزاً للتفكير، هي التي تهدي وتستشرف للسياسات الإسرائيلية وهي التي تنير الطريق أمام القرارات الداخلية والخارجية لإسرائيل.
* وترتبط هذه المراكز بحكومات أو شركات أو تكون مستقلة ولكنها في الإجمال تخدم سياسات دولها ومؤسساتها ومجتمعاتها.. ولهذا فإن غياب مثل هذه المراكز عن أيّ دولة يثير استفسارات عن سبب مثل هذا الغياب.. ولماذا لم تتولد مثل هذه القناعات إلى الآن في مجتمع بحجم المملكة العربية السعودية وبأهميتها الإستراتيجية في المنطقة وفي العالم؟.. ولماذا لم تتولد هذه القناعات والأخطار تحيط بهذه الدولة من كل مكان، ولديها من الأعداء الكثر منهم من هو ظاهر للعيان ومنهم من هو مستتر غير منظور.
* من المعروف أن القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في أي دولة من الدول المتقدمة لا يأتي من فراغ، بل من دراسات وتقييم الأوضاع الداخلية والخارجية ثم يتم تأسيس مشروع قرار يتم وضعه أمام أصحاب القرارات الكبري في المجتمعات وهذا ما تقوم به مراكز التفكير والدراسات الإستراتيجية في العالم خدمة لصاحب القرار.. أما الدول التي تغيب عنها مثل هذه المراكز فهي تضطر إلى أن تجتهد في صياغة مشروعات قراراتها وفق معطيات محدودة أو استنتاجات منقوصة على أرض الواقع أو خبرات استشارية غير متعمقة في موضوعات القرار.
* مراكز التفكير هي عقول تفكر بشكل إستراتيجي عميق في كل موضوع أو قضية وتقدم مشروع سياسات مقترحاً على الجهاز التنفيذي في الدولة مبنياً على منهجيات علمية وأسس مدروسة وآخذاً في الاعتبار بمتغيرات الموقف الداخلي وتداعيات الظروف الدولية ذات العلاقة بالموضوع.. ولهذا فإن قرارات السياسات الخارجية والدفاعية والاقتصادية في بلد مثل الولايات المتحدة لا تأتي إلا من خلال مراكز التفكير الإستراتيجية التي تقدم مسودات مقترحة لمشروعات قرارات وطنية كبرى.
* وأعلم علم اليقين أن كثيراً من القرارات الوطنية التي تتخذها الدولة في بلادنا تأتي بعد مراجعة الأجهزة التنفيذية ذات العلاقة في الدولة، ولكن هذا لا يكفي -حسب وجهة نظري المتواضعة- لكون هذه الأجهزة مرهونة بحقائق جزئية عن الموضوع، وليس لديها رؤية كاملة وشاملة حول طبيعة التداعيات الكبري للموضوع أو القضية.. كما أن هذه ألأجهزة -بحكم ضغوطات العمل الروتيني والميكانيزمات البيروقراطية التي تثقل كاهلها- تتعامل في رؤيتها للموضوعات والقضايا من تجارب سابقة وتطرح عادة ما تتوقع أنه في الجانب الآمن وفق وجهة نظرها المعتادة أمام الجهات العليا.. أما مراكز التفكير فلديها حرية الرأي وغير مقيدة ببيروقراطية الجهاز التنفيذي، كما أنها غير مترددة في طرح مبادرات وطنية كبرى.
* إن أهم ما تتميز به هذه المراكز هو وجودها الظاهر أمام الرأي العام المحلي والعالمي والعمل من خلال باحثين ومراكز متعاونة في سبيل بناء دراسات في موضوعات وطنية وإقليمية ودولية ذات أهمية للدولة والمجتمع.. وهذه الخاصية تتيح لها الانفتاح والانتشار والمصداقية والتحقق المباشر.. كما أن مثل هذه المراكز يمكن أن تطلق بالونات اختبار لمشروعات قرارات كبرى يتم اختبار تداعياتها قبل الشروع الفعلي في تبني مثل هذه القرارات.
* وسبق أن كتبت عن أن الجامعات يمكن أن تكون حاضنة لمثل هذه المراكز، ولكن العمل البيروقراطي والإمكانيات المحدودة للجامعات ستعيق تحقيق أهداف مثل هذه المراكز الوطنية.. ولكن تظل الجامعات هي الممول العلمي وهي أساس الكادر البحثي لمثل هذه المراكز.. وبلادنا تزخر بموضوعات وقضايا في قمة الأهمية الوطنية وتحتاج إلى دراسات معمقة مستمرة واستشرافات مستقبلية لتداعيات هذه القضايا والموضوعات.. وستعمل مثل هذه المراكز على تأسيس وعي مؤسسي بها وتعميق المعرفة بهذه الموضوعات وتحفيز روح إبداعية للحلول العملية المناسبة.
alkarni@ksu.edu.saرئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود