في كل سنة يمر علينا فيها موسم الحج تقف قلوبنا وتلهج أفئدتنا بالدعوات بأن يحفظ الله زوار بيت الله الحرام حتى يكملوا فريضتهم ويعودوا آمنين مطمئنين لديارهم. هذه ليست مهمة سهلة أو طبيعية كما قد تبدو، حين يتجمع اكثر من ثلاثة ملايين شخص في مساحات محدودة مقارنة بأعدادهم فيتحركون في نفس الوقت ونفس الاتجاه ويؤدون نفس الشعيرة يصبح تنظيم مسيراتهم امراً هندسياً وأمنياً بالغ الصعوبة.
وبحمد من الله مر علينا حج هذا العام بأقل قدر ممكن من الخسائر البشرية أو المادية وها هم الحجاج تدريجياً يعودون لديارهم بعد ان مكنهم الله من زيارة بيته بفضل جهود جبارة وخارقة من جنود وطنيين بعضهم معروف وأكثرهم مجهولون ولهم بلا شك كل التقدير والإشادة. لكن على الطرف المقابل تبدو الخسائر البشرية والروحية والبيئية مذهلة حتى حدود عدم التصديق.. على سبيل المثال لم يعد أي احد قادراً على أداء الفريضة التي تضاعف ثمنها خلال السنوات القليلة الماضية مرات ومرات... كم هائل من العلب البلاستيكية والكراتين والأمتعة والمخلفات في كل مكان وخاصة في منى تفوق ما تنتجه اية مدينة خلال سنة! كم هائل من الغازات المنبعثة من هذه الباصات المستهلكة التي تقل الحجيج إلى مناطق الشعائر فتنفث سمومها وتلوث الأرض وصدور العباد.. زحمة هائلة تضيع على الحاج تركيزه في عبادته وتأملاته وتتركه فريسة للإحباط والملل بتكرار تجربة الانتظار في أي مشعر. غلاء فاحش في أسعار حملات الحج وأسعار الإقامة في مكة يجعل أداء هذه الفريضة صعباً بكل المقاييس.
من المهم ان نستمع احياناً إلى اصوات مختلفة.... أصوات تقدم لنا رؤية ربما تعيننا في إدارة وتنظيم هذا الموسم الهام لنا وللمسلمين جميعاً بما يحقق لنا ولهم السلامة والفائدة والأجر. استمعوا معي إلى صوت أجمل مسرور الذي نشر مقالته في صحيفة الجارديان البريطانية حول تجربته الشخصية في الحج. مسرور هو إمام أحد المساجد في مدينة لندن كما أنشأ مع زوجته مؤسسة تسمى (بير فوت) تقوم على تقديم الإرشاد الزواجي للأزواج والشباب المسلمين ودورات رفع المهارات الذاتية. لنستمع لبعض ما قاله ونراجع مسلماتنا التي نعتقد بأهميتها من منظورنا كدولة نامية دون الانتباه لآثارها المدمرة على البيئة على المدى الطويل مثل ضرورة اقامة المباني الشاهقة وفنادق الخمسة نجوم واستخدام اكبر كمية من البلاستكيات عبر التغليف الفردي للمياه والأطعمة واستخدام الباصات الكبيرة القديمة التي تنفث سمومها في أجواء مكة لترفع مستوى التلوث.
كتب أجمل مسرور (اليوم اكملت حجي ولكني قلق للغاية من أن الحج قد فقد معانيه الروحية الحقيقية. لقد نجحت في استكمال شعائره ولكن التكلفة الاقتصادية والبيئية والبشرية مذهلة.كم أرثي لحال هذه المدينة التي اجتاحتها سرعة التغيير وطمست التاريخ والتراث في طريقها.
الحج رحلة روحية يندمج فيها الحاج مع إخوانه من المسلمين لكن كيف تفعل ذلك وسط هذه المادية المذهلة. اذا كنت أريد رؤية ناطحات السحاب فيجب ان أذهب إلى نيويورك أو لندن حيث لا أجد الروحانية التي أبحث عنها هنا.. اختفت الروحانية في ظل التمدين القصري لمدينة مقدسة كمكة. لقد جئت إلى الحج للتخلي عن الملاحقات المادية ولكن الماديات هنا ظهرت بكل قوتها وليس هناك روحانية في هذا. تكلفة الحج خلال السنوات الخمس الماضية زادت بثلاثة اضعاف مما يجعل الحج امراً بالغ الصعوبة بالنسبة للناس العاديين. فالفنادق الجديدة الشاهقة من فئة الخمس نجوم المحيطة بالكعبة متاحة لأولئك الذين يمكنهم أن يتحملوا مصاريفها. لقد لاحظت هذا العام ان الحج اصبح بالفعل احد أركان الإسلام المتاح للأثرياء حيث ارتفعت الأسعار بشكل غير عادي وغير متكافئ، في حين ان احد معاني الحج هو المساواة بين جميع الناس بوضع قطعتين من القماش الأبيض غير مخيط مما يلغي على الفور التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بينما الاتجاه الحالي هو جعل المساواة حلما بعيد المنال.
الناس يقضون الكثير من الوقت عالقين في ازدحام حركة المرور وقد أمضيت نصف وقتي في انتظار الحافلة لتأخذني إلى المكان المقدس وبدلاً من ذلك كان علي ان اقضي ذلك الوقت في التأمل والصلاة في بيت الله فلم اشعر بأية روحانية في الاختناقات المرورية. لقد افتقدت كثيراً الحج الذي يذكرني بسيدنا إبراهيم عليه السلام وسيساعدني على جعل حياتي كلها لله.
يذكر د. فيصل بغدادي من جامعة أم القرى في دراسته حول المؤثرات البيئية على صحة الحجاج ان هناك مصادر عديدة لتلوث البيئة المحيطة بالحجيج بعضه يتعلق بالسلوك البشري الذي نلاحظه للأسف من الكثير من الحجيج في عدم مراعاة قواعد النظافة العامة ورمي المخلفات بشكل عشوائي والتي يقترح إمام لندن سرور ان تحاربها حكومة المملكة بفرض عقوبات مادية كبيرة على الحجاج حتى يضطروا للالتزام بالسلوك المدني فيحفظ ذلك بيئة اشرف بقعة عرفتها البشرية والمصدر الثاني الذي تشير له دراسة بغدادي هو وسائل النقل المختلفة التي تنفث سمومها في الهواء وخاصة باصات نقل الحجاج القديمة ورغم ان المرور قد منع نهائياً دخول السيارات الصغيرة مما ساهم إلى حد كبير في تقليل الزحام والتلوث إلا أن إمامنا الحكيم سرور يذهب إلى ابعد من ذلك ويقترح منع دخول وسائل النقل نهائياً إلى المشاعر مما سيخفف الزحام والتلوث وسيحد من صفوف الانتظار للحافلات التي نعرف جميعاً ان وقت الحاج يضيع فيها أكثر من أي شيء آخر مما يفقد المكان روحانيته ويضيع الوقت الذي يجب ان يكون مخصصاً للتأمل والعبادة.
لقد أكرمنا الله بجعلنا مسؤولين عن تنظيم هذه الشعيرة لكافة المسلمين وقد امد الله حكومتنا بالاستقرار والمال لتتمكن من تأدية هذا الواجب وبقي علينا ان نفكر دائماً في التأثيرات البعيدة المدى لأية توسعة أو مخططات ذات علاقة بهذه المدينة المقدسة التي يجب ان نحفظ هدوءها وروحانيتها في المقام الأول وان نجعلها ممكنة وسهلة لكل مسلم حتى يتمكن من أداء فريضته ونحافظ عليها من توجهات التجار ومن خططهم لكسب المال وأن نفكر طويلاً وطويلاً في الآثار السلبية لكل هذه المظاهر الاستهلاكية على بيئة منطقة مكة المكرمة.