لا نعلم كيف ستكون العلاقات بيننا بعد سنوات قليلة من غزو وسائل الاتصال الحديثة؛ هو غزو جميل ومحبب ومريح ومثرٍ وعظيم في جانب؛ لكنه أيضا سلب منا الحميمية في علاقاتنا، والأنس ببعضنا، وأبعد عنا ملامح وجوه الأحباب والأصدقاء أكثر مما قربهم إلينا، فقد غيبت رسائل التهاني في المناسبات وجوها كنا نحفظ ملامحها ولم يبق في الذاكرة منها إلا بقايا تلوح كبقايا الوشم في ظاهر اليد كما قال طرفة بن العبد؛ فها أنا وأنت نتواصل مع أكثر من نعرف بهذه الرسائل المثلجة المعلبة التي نكتبها مرة واحدة بدون اسم معين ثم ندفعها عبر الأثير دفعا بضغطة زر واحدة إلى كل المعارف والأصدقاء، وإن أردنا أن نميز واحدا منهم على آخر أجرينا بعض التعديل والتحوير البسيط في الرسالة ثم ألصقنا اسم من نريد ممن لهم مكانة خاصة، وطيرنا المضمون نفسه إلى من نعتقد بقربهم وعمق محبتهم وتقديرهم!
تمر السنون وتتوالى ولا لقاء إلا مع ما ندر، وتكاد الصلات تندثر إلا ما كان صلة مرتبطة بعمل مشترك أو مصلحة قائمة، وحين يتغير موقع العمل أو تنقضي المصلحة تترمد تلك العلاقات وكأن المكان أو الحاجة هما من صنعا تلك العلاقات متخلية عن الأبعاد الإنسانية النقية الجميلة التي لا تعرف حدود المكان أو الزمان.
وحتى في البيت الواحد لا تعجب إن دخلت على صالة أو غرفة وفيها جمع من الأبناء مع أصدقائهم وكل منهم في جزيرة منفصلة عن الآخر لوحده مع آلته، هذا يلعب البلايستيشن مع أصدقاء متفرقين أحدهم من أمريكا، والآخر من بريطانيا، والثالث من كندا! والابن الآخر يتراسل مع صديق له بالواتس أب، والثالث منشغل بالردود على مخالفيه في تويتر، والرابع ضمن مجموعة يتحاورون في تشاتنج ساخن عبر أحد مواقع النت، إنه اجتماع بين أصدقاء رتب له ليكون اجتماعا مع الآلة، وهي وحدها سيدة المكان!
وقد تتنادى ثلة من السيدات الشابات في عمر حداثة تقنية الاتصال مع عدد من البنات في سن المراهقة فلا تسمع لهن صوتا في مجلس وكأن لا أحد؛ ثم تُفجَأ بعد الاستقصاء أن جمعا نسائيا موجود بالفعل ولكنهن وعلى غير عادة النساء في الصخب والحديث المتصل غير المنقطع والضحك والتعليقات وأحيانا الممازحات الثقيلة بين الفتيات الصغيرات لا تسمع لهن ركزا ولا نبأة صوت لانشغال كل واحدة منهن بجوالها البلاك بيري أو الجالكسي3 أوالنيكسس أو النوت أو التاب، أو الآيفون، وكأنهن مجلسهن الصاخب عادة خال إلا من رنين بعض الرسائل أو هزات الواتس أب الناعمة!
هل هي نعمة أم نقمة وسائط الاتصال الحديثة هذه؟! هل نحسب من نعمها التي لا يمكن أن تنكر تقريبها البعيد النائي في أقصى العالم وكأنه بيننا؟ واكتشافها من غيبه الزمن وطوته الأيام فإذا هو حاضر باسمه ورسمه في الفيس بوك أو تويتر؟ أو أن من نعمها أيضا تشبيك الصلات ولو كانت غير فواحة ولا عميقة وإنما لتذكر الاسم وعدم نسيانه برسائل التهاني والمباركة كما في الأعياد ومناسبات الأفراح؟! أم أنها بالفعل نقمة وأية نقمة، حيث جمدت المشاعر الأخوية بين الأقارب والأصدقاء، فمن يصدق أن أخا صغيرا يرسل لأخيه الأكبر مباركة العيد برسالة جوال؟! أو من يصدق أن أبناء العائلة الذي كان الأصغر سنا منهم يقبل رأس من هو أكبر منه يوم العيد يرسل تهانيه عبر هذه الوسائط؟!
أين ذلك الزمن العائلي والإنساني الجميل الذي اندثر كما يبدو قبل أن تتجمد الصلات بتقنية وسائط الاتصال الحديثة؟! أين هم الأصدقاء القدماء وأبناء العائلة القريبون منهم والأبعدون الذين كانوا قبل زمن الواتس أب حاضرين بقلوبهم وأجسادهم في مناسبة وغير مناسبة؟! هم موجودون بالفعل ولم ينقطع الكثيرون منهم؛ ولكن برسالة مثلجة لا طعم لها ولا معنى إلا كما توحي به شعرة معاوية!
أرثيك، أرثيك يا زمنا بسيطا وعذبا وجميلا مترعا بالمحبة النقية الصادقة ولى، ولى ولن يعود، وقد تخلقت أجيال جديدة لا تعرف ولا تتذكر كيف كانت العلاقات بين الناس حية نابضة غنية بدفق أرواح سمحة متواصلة، وكيف كان العتب قويا ولا يمكن قبول اعتذار عن قيام بواجب لن تسده رسالة عبر جوال أو عبارة مجاملة بمهاتفة إن عزت العلاقة وكانت لها منزلة مختارة مصطفاة!
هذا زمن عنوانه زخرفة الأشياء بلا طعم ولا مذاق، فالمشاعر المثلجة لا تختلف من حيث فقدانها المعنى عن المآكل المثلجة أو الخضراوات والفاكهة الجميلة المنشأة والمغذاة بأنواع الكيماويات فتكبر وتزهو منظرا ولكنها بلا طعم ولا نكهة!.
لنُسكتَ الآلة قليلا فقد علا صوتها الضاج على أصوات أرواحنا المخنوقة المستلبة!
moh.alowain@gmail.commALowein@