هذا اليوم هو اليوم الرابع من أيام عيد الأضحى الكبير، وكل مؤمن من أمتنا يتضرع إلى مولاه الحق - سبحانه وتعالى - أن يعيده عليها وقد وصلت مواكب هبَّاتها ضد أنظمة الفساد والبطش إلى أهدافها المنشودة، وأن يعيده عليها وقد انقشعت عن.....
.....بقية أجوائها غيوم مصائبها الفادحة، وفي طليعة هذه المصائب مصيبة سوريا الجريحة المنكوبة.
في الشهور الأولى من قيام الهبَّة الشعبية في سوريا ضد المتحكمين فيها عقوداً من الزمن كتبتُ مقالة، كان مما ورد فيها - مقارناً ما كان يجري على أرضها بما جرى ويجري في أقطار عربية أخرى -: “الوضع في سوريا وضع مستحكم العُقَد، داخلياً وخارجياً، فعلى المستوى الداخلي هناك تفرُّد في الحكم على أساس حزبي، ينظر إليه بعض أفراد الشعب على أنه لم يعد حزبياً فحسب، بل أصبح طائفياً مؤيَّداً كل التأييد من دولة ذات علاقة غير ودية مع العرب، ماضياً وحاضراً، وهي إيران، التي أصبح لها النفوذ الواضح الجلي في تسيير دفة الأمور في العراق المجاورة لسوريا. وعلى المستوى الخارجي هناك أمريكا - إضافة إلى إيران - وهي الدولة التي للمتصهينين فيها قوة مؤثرة، والتي يهمها - بالدرجة الأولى - ما يهم الكيان الصهيوني المجاور لسوريا والمحتل لجزء من أراضيها، وكلٌّ من قادة أمريكا، متصهينين أو مذعورين من الصهاينة وهذا الكيان الصهيوني، يهمها أن يبقى الوضع في سوريا على ما هو عليه؛ وبخاصة أن تهويد فلسطين - بما فيها القدس - يسير على قدم وساق”.
وأذكر أن مندوب الكيان الصهيوني قال في مؤتمر عُقد في إحدى دول أوروبا إن كيانه كلف أجهزة مخابراته بعد بدء الهبَّة الشعبية في سوريا بأن تدرس الوضع بعناية لاتخاذ الموقف المناسب، وأن الدراسة توصلت إلى أنه ليس لذلك الكيان مصلحة في زوال الحكم الحالي في سوريا، وما دام الصهاينة لا يرون مصلحة في زوال الحكم القائم في سوريا فإن من شبه المؤكد - إن لم يكن من المؤكد - ألا تكون أمريكا راغبة حقيقة في زوال ذلك الحكم. ولعلّ من أدلة ذلك ما يبدو من كبحها حماسة أولئك الذين أطلقوا تصريحات قوية، عرباً وغير عرب، لمساعدة من هبُّوا ضد الحكم في سوريا؛ فذهبت تلك التصريحات أدراج الرياح.
قادة الكيان الصهيوني يدركون - مع الأسف الشديد - أبعاد الأوضاع في المنطقة غاية الإدراك؛ كانوا قد شهدوا كيف تُركت مصر تقوم بحرب الاستنزاف، التي تلت حرب 1967م، دون أن تشاركها سوريا تلك الحرب المجيدة. ولقد أرعبهم ما فاجأهم عام 1973م، عندما أثبت المقاتل العربي على الجبهتين المصرية والسورية مقدرته العظيمة، كفاءة وبسالة، وكادت الهزيمة الساحقة تنزل بهم لولا رمي قادة أمريكا بثقلهم بكل قوة واندفاع؛ ما جنبهم تلك الهزيمة.
ومن المعروف أن عَقْد السادات اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني كان انتصاراً للصهاينة، عبَّر عنه عدد من قادتهم بأنه لا يقل أهمية في نظرهم عن أهمية قيام كيانهم عام 1948م. وكان لهؤلاء القادة أن يعبِّروا بما عبَّروا به؛ ذلك أن خروج مصر - أو إخراجها - بكل ما لها من إمكانات عن ميدان المواجهة مع ذلك الكيان نصر له واضح المعالم والدلالات.
ومن المؤسف والمؤلم أن قادة الكيان الصهيوني لديهم مقدرة في توزيع أدوارهم وفق ما فيه مصلحة لكيانهم. لقد شهدوا أن الجبهة مع سوريا ظلت هادئة هدوءاً يكاد يكون موتاً منذ نهاية حرب 1973م؛ فقدروا ذلك كل التقدير، ودع عنك ما تتداوله وتقوله وسائل الإعلام. صحيح أن وقوف الحكم في سوريا مع المقاومة اللبنانية، التي يرجع إليها الفضل - بمساندة الشعب اللبناني - في طرد الصهاينة من جنوب لبنان، كان وقوفاً محموداً مشكوراً من وجهة نظر أمتنا بعامة، وأنه كان مؤلماً للصهاينة، لكن هؤلاء بقدرتهم الواضحة على وزن الأمور رأوا أن تجرع كأس تلك الهزيمة على الجبهة اللبنانية أخفُّ وطأ من أي تحرُّك على الجبهة السورية. ولقد شهدوا أيضاً أنهم تمكنوا - دون اكتراث بالحكم السوري - من تدمير أحد مختبرات ذلك الحكم ببرد وسلام من أي رد فعل.
ما جرى في سوريا - وما زال يجري - كان مما توقعتُ حدوثه، وإذا كان العالم كله قد شهد كيف ارتُكبت أفظع المجازر ضد المدنيين، رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، في الشهور الستة الأولى من قيام الهبَّة الشعبية هناك، وهي تنادي بأنها سلمية، ولم تلجأ إلى استعمال القوة دفاعاً عن النفس، فإنه لم يكن مستغرباً من حكم استبدادي ظالم أن يستمر في ارتكاب الجرائم، تقتيلاً وتدميراً، بعد أن رأى لجوء المنادين بزواله إلى القوة دفاعاً عن أنفسهم وأهليهم.
وكنتُ قد نشرتُ مقالة في هذه الصحيفة بتاريخ 25-9-1433هـ بعنوان (لا توقُّف للمجازر حتى يكتمل التدمير)، ومما قلته في تلك المقالة:
“ما يشاهده العالم كله الآن هو أن التدمير والتقتيل في سوريا يزدادان فظاعة كل يوم. والمرجح جداً أن الكيان الصهيوني لن يرضى عن توقفهما، أو إيقافهما، قبل اكتمال تدمير سوريا. ولقد اتضح للكثيرين كيف ضاعت فلسطين، أو ضُيَّعت، وكيف ضاعت العراق، أو ضُيَّعت. ومن الواضح للجميع أن سوريا تتبع هذين البلدين في الضياع، أو التضييع، علــى أيدي المتنفــذين فيها بالدرجة الأولى، وأن اكتمال تدميرها، إنساناً وعمراناً، هو الأمر الوحيد الذي يرضى عنه الصهاينة”.
أختم بقول ما بدأته، وهو التضرع إلى الله - سبحانه - أن يعيد العيد على أمتنا وقد انقشعت عنها غيوم مصائبها الفادحة.