الحمد لله الذي امتن على عباده بمواسم الخيرات، ففرض الحج بعد الصيام في أشهر معلومات، ففازوا بعلو الدرجات في الجنات، وأشهد لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل السابقين إلى الخيرات، أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء،
ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلاة الله وسلامه على هذا النبي الأمي وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم،
أما بعد:
موسم الحج كثيراً ما تطلعت إليه النفوس المؤمنة رغبة في مناجاة ربها وخالقها وأداء ما فرضه الله عليها وشوقاً لزيارة تلك المشاعر المقدسة والتعبد فيها تلبية لنداء الحق تبارك وتعالى عند قوله سبحانه {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات}.
ففي الحج استجابة لنداء الله سبحانه وتعالى على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، وفيه منافع للمسلمين في مآلهم ومعادهم، تتحقق بإخلاص النية لله تعالى؛ ليكون حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً بإذن الله تعالى.
أولاً: المراد بالأشهر المعلومات:
دلت الآية الكريمة على أن الحج الذي فرضه الله على العباد يقع في أشهر معلومات، ومن أحرم بالحج فيهن فإحرامه صحيح، وعليه إتمام النسك، وهي المواقيت الزمانية للحج.
والمراد بالأشهر المعلومات كما فسرها ابن عمر رضي الله عنهما (شهر شوال وشهر ذي القعدة والعشر الأول من شهر ذي الحجة) وعليه لا يكون للمسلم الإحرام بالحج قبل أشهره لأنه خلاف السنة، ويجوز الإحرام في تلك المدة في أي وقت قبل طلوع الفجر الثاني من اليوم العاشر من شهر ذي الحجة فمن أدرك الوقوف بعرفة في أي ساعة من ليل أو نهار فقد أدرك الحج. ومن فاته الوقوف فاته الحج؛ لأنه الركن الأول من أركان الحج بعد الإحرام من الميقات. وفي الحديث (الحج عرفة) والأفضل للمسلم أن يحرم بالحج في اليوم الثامن من ذي الحجة إذا كان بمكة أو قربها أو متمتعاً حل من عمرته دفعاً للحرج والمشقة لفعل الصحابة رضي الله عنهم، فقد توجهوا إلى منى في اليوم الثامن وهو يوم التروية وأهلوا بالحج بعد أن حلوا من عمرتهم.
ثانياً: ما ينبغي لمريد الحج والعمرة:
ينبغي لمن أراد الحج أو العمرة أن يحرص على الأمور الآتية:
1. إخلاص النية لله تعالى في أداء هذا الركن العظيم؛ فإن ثواب العمل على قدر الإخلاص لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
2. الاجتهاد في تحصيل المال الحلال الذي لا شبهة فيه ليكون زاده في سفره؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا خرج الحاج حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز فقال: لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور. وإذا خرج بالنفقة الخبيثة ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مأجور) رواه الطبراني.
3. رد الحقوق والمظالم إلى أصحابها؛ لأن حق العبد مقدم، فإن أذن الدائن للمدين بالخروج إلى الحج خرج، وله منعه إذا كان الدين حالاً، وليس له منعه في الدين المؤجل إذا كان المال يفي بالحج والدين معاً.
4. اختيار الرفقة الصالحة ممن يعلم صلاح حاله، ويثق بدينه؛ ليكون عوناً له في سفره، يستشيره في بعض الأمور التي تخفى عليه في أداء نسكه.
5. توديع الأهل والأقارب عند إرادة السفر، ويدعو لهم في سفره ويدعون له.
6. العناية بآداب السفر ذهاباً وإياباً بأن يخلص النية في سفره، فإنه سفر طاعة لله تعالى. وعليه أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة، ويقوم بما أوجب الله عليه من الواجبات خير قيام، ويدعو عند سفره بالدعاء المأثور في السفر فيقول (الله أكبر الله أكبر، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى. اللهم هون علينا سفرنا هذا واقض عنا بُعده. اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل والولد، ويزيد عند رجوعه (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)). فإن كان المسافر امرأة فإنه لا يحل لها الخروج للحج ولا لغيره إلا مع ذي محرم؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)؛ فلا يجب الحج على المرأة إذا لم تجد من يسافر معها من محارمها، ولا تأثم بتركه، وهذا يدل على عظم شأن المحرمية وتأكيدها حيث أدى عدم وجود المحرم إلى سقوط الواجب. وقد استأذن رجل النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: إن امرأتي خرجت حاجة وأنا أريد أن أكتتب في غزوة كذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم (انطلق فاحجج مع امرأتك).
7. ويستحب أن يكون سفره يوم الخميس ففي الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال: (قلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في سفر إلا يوم الخميس فإن فاته فيوم الاثنين، إذ فيه هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة). ويستحب أن يصلي ركعتين في بيته لحديث (ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما حين يريد سفراً)، ثم يقول عند خروجه (بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله).
ثالثاً: مناسك الحج:
ومن عزم على أداء فريضة الحج وتوكل على الله فإنه إذا خرج من بيته متوجهاً إلى بيت الله الحرام فإنه يتجه إلى أقرب المواقيت منه، فإذا وصل إلى الميقات أو حاذاه لزمه الإحرام من الميقات ولا يجوز له مجاوزته بغير الإحرام، فإن جاوزه وهو مريد للنسك لزمه الرجوع، فإن رجع وأحرم منه فلا شيء عليه، وإن لم يرجع فعليه دم لتركه الواجب. ويسن لمريد النسك قبل إحرامه أن يغتسل ويتنظف ويقلم أظفاره ويتطيب في بدنه خاصة وينزع المخيط ويلبس ثياب الإحرام إزارا ورداء أبيضين نظيفين ونعلين، ثم ينوي الدخول في النسك. ويستحب أن يكون إحرامه بعد صلاة فريضة أو نافلة فإن وافق وقت نهي فلا يتنفل؛ لأنه ليس للإحرام صلاة تخصه، وإنما كونه عقب صلاة اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أحرم بعد صلاة الفريضة. وإن خشي من عائق يعوقه استحب له أن يشترط.
وإذا أراد الدخول في النسك فهو مخير بين ثلاثة أنساك، إما أن ينوي الإفراد فيقل: لبيك حجاً، أو ينوي القران فيقول لبيك عمرة وحجاً، وإما أن ينوي التمتع فيقول لبيك عمرة متمتعاً بها للحج، ثم يتجه إلى مكة ملبياً.
فإن كان مفرداً أو قارناً فإذا قدم مكة طاف طواف القدوم وإن شاء سعى بعده سعي الحج، وإن شاء أخّر السعي بعد طواف الإفاضة، فليس عليه إلا سعي واحد، والمفرد لا يلزمه هدي. ويلزم القارن الهدي؛ فقد حج النبي صلى الله عليه وسلم قارناً ونحر هديه. ويبقى المفرد والقارن على إحرام حتى ينحر هديه. أما المتمتع فأول ما يقدم مكة يقضي نسك العمرة فيطوف بها سبعة أشواط مبتدئاً بالحجر الأسود، ويستلمه إن تيسر له، أو يشير إليه ويقول بسم الله والله أكبر، ثم يطوف جاعلاً الكعبة عن يساره، وإذا وصل إلى الركن اليماني استلمه إن تيسر له ولا يشير إليه، ويقول بين الركنين {ربنا آتنا في الدنيا حسنة في الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
ويطوف مضطبعاً أي جاعلاً رداء تحت عاتقه الأيمن وطرفيه فوق عاتقه الأيسر، ويهرول في الأشواط الثلاثة الأولى. والاضطباع والهرولة سُنَّة. ويدعو بما تيسَّر له في كل شوط من الدعاء؛ فليس للطواف دعاء يخصه.
فإذا فرغ من الأشواط السبعة صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام لقوله تعالى {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، ولا يزاحم فإن لم يتيسر له صلاهما في أي مكان من الحرم.
ثم يتجه إلى الصفا ويرقاه مستقبلاً الكعبة رافعاً يديه ويدعو بما تيسر له، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا هو وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده). وعند صعوده يقرأ (إن الصفا والمروة من شعائر الله).
ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشياً فإذا بلغ العلم الأخضر رمل بين العلمين فإذا وصل المروة رقى عليها ويستقبل القبلة ويقول ما قال عند الصفا ثم ينزل من المروة إلى الصفا، وهكذا يمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه حتى يكمل سبعة أشواط، فمن الصفا إلى المروة شوط ومن المروة إلى الصفا شوط حتى يكمل الأشواط السبعة.
والرمل في الطواف والسعي للرجال دون النساء؛ فلا يجوز للمرأة أن ترمل لأنها مأمورة بالتستر والرمل قد يؤدي إلى كشف شيء من بدنها.
فإذا تم له سبعة أشواط حلق رأسه إن كان رجلاً، وإن كانت امرأة فتقصر من ضفائرها قدر أنملة.
ويجب أن يكون الحلق شاملاً لجميع الرأس أو يقصر، ويكون التقصير شاملاً لجميع الرأس، والحلق أفضل من التقصير، فإن كان وقت الحج قريباً منه بحيث لم يبق مدة تكفي لنبات الشعر يقصر المتمتع ليحلق في الحج.
وبالطواف والسعي والحلق أو التقصير تتم العمرة، ويتحلل المتمتع من عمرته ويحل له كل شيء حرم عليه بإحرامه.
فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج من مكانه، سواء من منى أو من مكة، ويفعل عند إحرامه بالحج ما فعله عند إحرامه من الميقات من المستحبات ثم يلبي ويقول لبيك حجاً، ويشترط أيضاً إن احتاج إليه فيقول (فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني)، فإن عاقه عائق دون إتمام النسك بعد الاشتراط تحلل ولا شيء عليه. ولا يستحب الاشتراط من غير حاجة.
ثم يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً من غير جمع اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبقاؤه في منى يوم الثامن وليلة التاسع سنة وليس بواجب.
فإذا طلعت الشمس يوم عرفة سار من منى إلى عرفة فينزل بنمرة إن تيسر له إلى الزوال، والنزول بنمرة سنة لمن يتيسر له، فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر قصراً وجمعاً جمع تقديم ليطول وقت الوقوف والدعاء. وبعد الصلاة يتفرغ للذكر والدعاء ويتضرع إلى الله بما أحب من الطاعات مستقبلاً القبلة، واستقبالها سنة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرفة.
ومن الأدعية المأثورة في يوم عرفة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) فإن أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة.
فإذا غربت الشمس وتحقق الغروب سارا إلى المزدلفة بسكينة ووقار، فإذا وصلها صلى المغرب والعشاء جمعاً وقصراً. ويبيت بالمزدلفة تلك الليلة وجوباً، فإذا طلع الفجر صلى الفجر في أول وقتها ثم وقف عند المشعر الحرام إن تيسر له أو في أي مكان من مزدلفة لقوله صلى الله عليه وسلم (وقفت ها هنا وجمع كلها موقف)، ويدعو ويكبر ويذكر الله لقوله تعالى {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّه عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}.
فإذا أسفر جداً دفع إلى منى قبيل طلوع الشمس، فإذا وصلها رمى جمرة العقبة بسبع حصيات سواء أخذها من منى أو من مزدلفة، يكبر مع كل حصاة.
فإذا فرغ من الرمي نحر هديه، ثم حلق رأسه، وتقصر المرأة كما في العمرة، ثم يكون قد تحلل التحلل الأول بعد الرمي والحلق أو التقصير، ويحل له كل شيء حرم عليه بإحرامه إلا النساء حتى يطوف ويسعى.
فيتجه إلى مكة، ويطوف طواف الإفاضة، وهو ركن في الحج، ويسعى سعي الحج إن كان متمتعاً أو مفرداً أو قارناً ولم يسع مع طواف القدوم.
ثم بعد الطواف والسعي يرجع إلى منى فيبيت بها ليلة اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر إن لم يتعجل وجوباً، وتسمى أيام التشريق، ويرمي في اليوم الأول والثاني الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس مبتدئاً بالصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى (جمرة العقبة)، كل واحدة بسبع حصيات يقف عند الصغرى والوسطى قليلاً يدعو بعد الرمي، ويرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها، ويكبر مع كل حصاة، ولا بد من نزولها في الحوض ولا يكفي وقوعها خارجه، فإذا تيقن من عدم نزولها في الحوض رمى بدلاً منها.
فإذا تم له رمي الجمار في اليوم الثاني عشر فإن أراد أن يتعجل نزل من منى قبل غروب الشمس، فإن غربت شمس اليوم الثاني عشر وهو في منى مختاراً لزمه المبيت ليلة الثالث عشر والرمي من الغد بعد الزوال والتأخر أفضل لقوله تعالى {ومَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْه وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه لِمَنِ اتَّقَى}.
وقبل خروجه من مكة يلزمه طواف الوداع وجوباً؛ ليكون آخر عهده بالبيت، فإن أخَّر طواف الحج إلى قبيل خروجه أجزأه عن طواف الوداع إذا لم يقم بمكة بعده.
ويسقط طواف الوداع عن الحائض والنفساء؛ فليس عليهما طواف وداع إلا إذا طهرتا قبل مفارقة البنيان كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه خفف عن الحائض).
هذا ما تيسر لي، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل حجكم مبروراً وسعيكم مشكوراً وذنبكم مغفوراً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
dr-alhomoud@hotmail.comالمعهد العالي للقضاء