كان مغرب يوم الجمعة 19 ذي القعدة 1433هـ، الموافق 5 أكتوبر 2012م، موعد الأمر الإلهي لرحيل أخي وشقيقي الأكبر سليمان العيسى إلى الرفيق الأعلى، وهو الابن البار لوالديه ووطنه، فقد تربى على يد أب صالح تعلَّق قلبه بالمساجد، ومات بأحدها بعد أن أدى صلاة الفجر. أسأل الله أن يغفر لوالدي ويظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ويجعله أحد السبعة الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم (ومنهم رجل تعلق قلبه بالمساجد)، ونهل أخي من أم عظيمة، أخلصت عبادتها لله سبحانه فرزقها الله بهذا البكر البار الصالح. رحل أخي وغادر هذه الأم العظيمة وهي راضية عنه صابرة ومحتسبة، مؤمنة بقضاء الله وقدره، وتدعو له بالمغفرة والرحمة.
عندما قال الإمام الشافعي - رحمه الله - حسب الأرجح من أهل العلم «رضا الناس غاية لا تدرك» لم يكن يعلم أن يأتي زمن نرى فيه وطناً بأكمله ينعى ابنه البار، فمن ينظر إلى ذلك الجمع الغفير الذي صلى عليه في الحرم المكي الشريف، والحشد الكبير الذي حضر دفنه في مقبرة العدل بمكة المكرمة، والأعداد الهائلة من الناس الذين حضروا لتقديم العزاء من جميع طبقات وشرائح المجتمع، والكتّاب والأدباء والأصدقاء الذين كتبوا عنه، من ينظر إلى كل ذلك يستطيع أن يدرك أن رضا الناس قد تدرك، ولكن ذلك يتطلب الكثير والكثير من الحب والبذل والعطاء، فقد كانت تلك الجموع بمنزلة الشريط الذي يستعرض مسيرة حياته المليئة بفعل الخير والمحبة والوفاء، ويتعرف عن قرب بصوت البشائر، ويعلم أن وراء ذلك أسطورة إعلام، قدَّم كل شيء لإرضاء ربه أولاً، ثم براً بوالديه ووطنه، وبذل كل ما يستطيع من الخير لكل من عرف ومن لم يعرف؛ فأسأل الله أن يجعله ممن أدرك رضا الله ومحبته كما أدرك حب ورضا الناس.
ومن أجمل ما وردني من محبيه «لو كان للزمن الجميل صدى لكان صوت سليمان العيسى.. كان الماضي جميلاً بأولئك العمالقة، وسيكون المستقبل أجمل بذكراهم.. صنعوا الحياة فينا وجداناً وفكراً فنقشتهم على جبين التاريخ وفي أعماقنا وفاء وذكرى».
وبشارة الخير أن نجد الدعوات له والتعازي بفقده تتخطى هذا الوطن الغالي لتأتي من الخليج ومصر والسودان ودول عديدة أخرى، بل حتى من السفير الصيني، ولم يكن ذلك ليأتي من فراغ، وإنما ثمرة جهد وإخلاص وبذل ووفاء؛ فقد قدم الخير، ووجد ثمرة ذلك في أثمن وقت يحتاج إليه اليوم، حين انقطع عمله، ولم يتبقَّ له إلا الدعوة من الابن الصالح والصدقة الجارية والعلم الذي ينتفع به، وأحمد الله أن رزقه الأبناء الصالحين، وزاده الله من فضله لنجد الملايين الذين يدعون له من الشباب والأطفال والشيوخ والعجائز. أسأل الله أن يتقبّل منهم جميعاً. رحم الله أخي ووالدي الصغير. نعم، فقد كان الوالد الصغير في حياة أبي، فكان هو القريب لقلوبنا جميعاً، يوجِّه ويربي، يعطف ويحنو، يهرع عند مرضنا ولا يهدأ حتى يطمئن على صحتنا، حرص على تعليمنا جميعاً حتى حصلنا على أعلى الشهادات، وكان المساعد لشريكة حياته ورفيقة دربه حتى حصلت على الدكتوراه، وكرر ذلك مع ابنته لتحصل على الدرجة نفسها، وكذلك مع بقية أبنائه الذين في طريقهم لذلك. علمنا الحب والوفاء، والبذل والعطاء، والبر بوالدينا ووطننا، وأحب صلة الرحم، وعمل عليها كثيراً؛ حيث ورث ذلك من أبي رحمة الله عليه؛ فكان حريصاً على لمّ شمل الأسرة في كل حين، ونحن على دربه إن شاء الله سائرون.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته «أنتم شهداء الله في الأرض» عندما مرت بهم جنازة وشهدوا لها بخير. نحمد الله على قضائه وقدره، ونحمد الله أن رأينا وشهدنا حب الناس ودعواتهم الصادقة له مما كان له الأثر الكبير في تخفيف مصابنا في فقده وبث العزاء في قلوبنا جميعاً، قلوب والدته الصابرة المحتسبة وزوجته الوفية وأبنائه البررة وأحفاده وإخوانه وأخواته وأصدقائه وكل من أحبه، سواء عرفه أو لم يعرفه.
رحلت يا أخي وتركت الحب الكبير لك في قلوب أبنائك وأحفادك، وقلوبنا وقلوب أبنائنا، بل في قلوب الملايين من أبناء وبنات هذا الوطن الغالي من الذين أسعدتهم بصوتك المبشر بالخير، ولك منا جميعاً لمسة وفاء بالدعاء لك دائماً ما حيينا بالمغفرة والرحمة والعتق من النار، وأسأل الله تعالى أن ينير قبرك ويجعله روضة من رياض الجنة.
رحمك الله يا أخي الغالي وأبي الحنون وصديقي الوفي، وجمعنا الله بك وبآبائنا وأمهاتنا في جنة الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{إنا لله وإنا إليه راجعون}.