أوضح بيان ميثاق مكة المكرمة في الثامن والعشرين من شهر رمضان 1433هـ المنبثق من أعمال قمة التضامن الإسلامي الاستثنائي الذي عقد في قصر الصفا بمكة المكرمة تحت رعاية خام الحرمين الشريفين -حفظه الله- وقد أدان بشدة الجرائم التي ترتكبها حكومة ميانمار (بورما) ضد الأقلية المسلمة لديها، وأشار في مادته التاسعة إلى أن «سياسة التنكيل والعنف التي تمارسها حكومة اتحاد ميانمار ضد مواطنيها من جماعة الروهنجيا المسلمة هي جرائم ضد الإنسانية، وهي محل استنكار وقلق شديدين من دول وشعوب العالم الإسلامي بصفة خاصة ودول وشعوب العالم بصفة عامة لتنافيها مع كل مبادئ وقوانين وحقوق الإنسان والقيم والأخلاق والقوانين الدولية، وعلى حكومة اتحاد ميانمار الكف فوراً عن هذه الممارسات وإعطاء الروهانجيين حقوقهم كمواطنين في دولة ميانمار، كما أن على المجتمع الدولي الاضطلاع بمسؤولياته القانونية والأخلاقية في هذا الشأن».
ولعله من المناسب هنا إعطاء الضوء على دولة أراكان التي أصبحت اليوم تسمى راكين ضمن دولة ميانمار (بورما سابقاً)، كما أطلق على سكان هذه المنطقة إثماً وعدواناً وصف البنغال نسبة إلى بنجلادش المجاورة لهم رغم أنهم ليسوا بنغاليين، لكنهم مسلمون في بلد أغلبية سكانه بوذيون.
وأراكان عبارة عن شريط ضيق من الجبال تقع على الساحل الشرقي في خليج البنغال، ممتدة على شكل طولي من الشمال إلى الجنوب. وتصل مساحتها إلى عشرين ألف ميل مربع وعاصمتها أكياب. وتعطي هذه السلسلة لأراكان شكل وحدة جغرافية مستقلة، تحدها من الشمال: الهند والصين، ومن الجنوب خليج البنغال، وبنجلاديش من الغرب.
وأراكان كانت سلطة إسلامية مستقلة ذات حضارة منذ عام 833هـ/1430م، والآن تعيش تحت السيطرة البوذية في بورما (ميانمار) ومعظم المسلمين في بورما يعيشون في منطقة أراكان، ويُشكل المسلمون في بورما نسبة 12% من عدد السكان الذي يقدر بحوالي 38 مليون نسمة.
وتمثل بورما إحدى دول جنوب شرقي آسيا، وتتألف من اتحاد من عدة ولايات مما يجعل سكانها مختلفين من حيث التركيب العرقي واللغة بسبب تعدد العناصر المكونة للدولة، فمن بين سكانها عناصر مغولية، وعناصر أندونيسية، وعناصر هندية، ويتحدث أغلب سكانها باللغة البورمانية، ويطلق على هؤلاء البورمان، وباقي السكان يتحدثون لغات متعددة.
ومن بين الجماعات البورمانية جماعات الأراكان التي تعرف باسم الروهنجيا، ويعيشون في القسم الجنوبي من مرتفعات أراكان يوما، وجماعات الكاشين، حيث ينتشر الإسلام بين هذه الجماعات، والمسلمون يعرفون اللغة البورمية، ولكن الكثير منهم يتقن اللغة العربية خاصة المثقفون منهم، كما أن الشريعة الإسلامية تطبق في معظم الشؤون الشخصية.
والإسلام دخل بورما في القرن الثاني الهجري، وقيل في القرن الأول الهجري عن طريق قوافل التجار العرب إذ كان بعض التجار العرب المسلمين يحطون رحالهم على شاطئ أراكان، وكانت عاصمتها أكياب ميناء كبيرًا يمر به العرب أثناء سفرهم من وإلى الشرق الأقصى والصين، وكان وجود الإسلام في القسم الشرقي من شبه جزيرة الهند كان له آثاره في انتشار الإسلام في أراكان وأقاليم بورما، كما وصل الإسلام إلى الأراض البورمية عن طريق جيرانهم من الماليزيين ومن بنجلاديش والهند، وقد زاد انتشار الإسلام في بورما بعد عام 686هـ1287م بعدما غزا التتار في الصين بلاد الإسلام.
وقد انتشر الإسلام سريعاً في القرون التالية حتى استطاع المسلمون تشكيل أول سلطنة إسلامية مستقلة في أراكان عام 833هـ/1430م وذلك على يد الملك سليمان شاه ثم تعاقب على عرش أراكان العديد من الملوك والسلاطين المسلمين.
كان المسلمون الروهانجيون آنذاك أمة مستقلة ذات ثقافة وحضارة خاصة بهم، تجلت في عدة مظاهر منها: كتابة كلمة التوحيد على العملات الفضية المتداولة آنذاك، وتمييز بعض الشعارات والأوسمة بكلمات إسلامية مثل: أقيمو الدين، والتي تؤكد حكم الله على الأرض.
وهكذا وصل الإسلام إلى أراكان في غرب بورما مبكراً، وتكونت دولة أراكان الروهنجيا الإسلامية، وازدهر الإسلام في هذه المنطقة في القرن التاسع الهجري.
واستمر الإسلام بأراكان خفاقاً نحو أحد عشر قرناً من الزمان، ودامت دولة الإسلام فيها إلى أن غزاها البوذيون الزاحفون من بروما عام 1198هـ/1784م واحتلوا أراضيها وسيطروا على مقدراتها حتى جاء الغزو البريطاني لبورما في سنة 1241هـ/1826م ومعها أراكان في إطار الإدارة الاستعمارية لشبه القارة الهندية، وبسط نفوذه على كل منطقة بورما وأراكان في عام 1303هـ/1885م وضمها للهند ثم فصلتها حكومة بريطانيا عن الهند في سنة 1347هـ/1928م وبقيت بورما مستعمرة مستقلة داخل الإمبراطورية البريطانية، وأصبحت الهند وبورما إلى جانب أراكان تتمتع بنوع من الحكم الذاتي الداخلي حتى استقلت بورما عن الاستعمار البريطاني في عام 1367هـ/1948م، وصارت منطقة أراكان بأغلبيتها المسلمة ولاية ضمن جمهورة بورما، وخضع المسلمون للسلطة الوثنية البوذية التي تحكم البلاد، ومنذ ذلك التاريخ بدأت مرحلة شاقة من اضطهاد المسلمين في بورما.
يعيش المسلمون في أراكان في عزلة تامة عن المجتمع البورمي الذي يتألف من عدة شعوب وطبقات بشرية، فالمجتمع الإسلامي في أراكان له كيانه وتراثه الإسلامي؛ ذلك لأنه جزء من الأمة العربية والإسلامية، وهو من المجتمعات العربية العريقة، تربطهم وحدة الدم والعروبة والعقيدة فهم عناصر عربية مسلم تعود إلى عرب شبه الجزيرة العربية جاءوا إلى أراكان وبورما بهدف التجارة قبل أكثر من ألف عام، وإلى أصل عربية أخرى وفدت إلى أراكان أيام الفتح الإسلامي لبلاد الهند والسند؛ الأمر الذي جعلهم يتعرضون لأشبع هجوم شرس لتشويه عقيدتهم وحضارتهم، وذلك مثل: إحراق المساجد وبيوت العبادة، واغتصاب أراضي المسلمين، وهتك الأعراض، وغيرها من الجرائم الوحشية البشعة غير الإنسانية، والتي تخرج عن صفة الإنسانية، ولا يمكن وصفها من هول بشاعتها.
ومن المثير للعجب والسخرية أن تدعي السلطات البورمية افتراءً أن جماعات الروهنجيا المسلمين في أراكان ليسوا من مواطني بورما مع أن هذه الجماعات المسلمة تواجدت في منطقة أراكان منذ خمسة قرون، وجوهر هذه القرية هو التخلص منهم كمسلمين للتقليل من عدد المسلمين بمنطقة أراكان في غرب بورما؛ فكان هذا سبباً في أن تطبق السلطات البورمية على هؤلاء المسلمين قوانين الهجرة وتسجيلهم كأجانب حتى تضفي السلطات على عمليات الاضطهاد والإبادة الجماعية صفة قانونية، إلى جانب عمليات السلب والنهب والاعتقال، وإثارة الفزع والخوف بين السكان بقصد إبادة المسلمين وتشريدهم من ديارهم، فأحرقت القرى والمساجد في العديد من مناطق المسلمين بأراكان، وكثرت حوادث الإجلاء عن أراضيهم ومنازلهم والطرد الجماعي لإحلال البوذيين محلهم وتحويل المسلمين إلى أقلي مهانة منبوذة.
إن مسلمي بورما يتعرضون اليوم لواحدة من أعنف حملات الاضطهاد وصلت إلى درجة الإبادة الجماعية العامة، فحالتهم في هذه الدولة سيئة ومؤسفة للغاية، فهم يعيشون في ظل ظروف قاسية وأليمة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان.
وقد اشتدت المآسي الآن أكثر من ذي قبل.
إن شعب أراكان المسلم يدعو الأمة الإسلامية حكومات ومنظمات إلى الضغط على حكومة ميانمار (بورما) حتى توقف اعتداءاتها المتكررة ودفع الظلم الذي يقع على المسلمين، وإيقاف الاضطهاد والتنكيل الذي يُمارس ضده، والعمل على إيقاف محاولات التذويب وعمليات الإبادة الجماعية وأساليب التجويع والحرمان والتشريد وهتك الأعراض، وهدم بيوت الله، وحرمانهم من بطاقات الجنسية وجوازات السفر.
فهل يعي المسلمون مأساة إخوانهم في ميانمار (بورما)، وهل يتحملون مسؤولياتهم التاريخية تجاه هؤلاء المسلمين فتتحرك الحكومات الإسلامية بالمفاوضات والضغوط واللجوء إلى وسائل السلم المختلفة لمنع السلطات البورمية من ممارساتها البشعة، فالتعاون الإسلامي الدولي مطلب غال وعزيز للإسهام في حماية هؤلاء الإخوة المسلمين ونشر الأمن والسلم في تلك البقاع.