في محاضرة للدكتور عبدالله مناع ألقاها بالنادي الأدبي في جدة الأسبوع الماضي بعنوان (جدة إن حكت: شعراءها - أدباءها - وتجارها) تحدث بحضور جمع من المثقفين عن جدة في ثلاثة محاور مهمة في تاريخ هذا الثغر الجميل، هاهي الجزيرة تنشرها لإطلاع القراء على ما تناول المحاضر عنها في محاضرته.
(جدة.. إن حكت).. هو عنوان أمسيتنا لهذه الليلة، اختاره بروح الفنان: الأديب والإعلامي المفوَّه الأستاذ عبده قازان.. وهو عنوان أقل ما يقال عنه، إنه (أخَّاذ).. ففيه من العاطفة بقدر ما فيه من الشجن، وفيه من الحنين بقدر ما فيه من الأنين، وفيه من الحب بقدر ما فيه من الأسى، وقد انتزع موافقتي.. فور سماعي له..
فـ(جدة إن حكت).. فهي لابد وأن تحكي عن تاريخها الموغل في القدم، ليعرفه من لا يعرفه من الأجيال الشابة.. وليتذكره الشيوخ والمخضرمين من أمثالي، إذ تقول الموسوعة العربية الميسرة (يرجع تاريخ جدة إلى ما قبل الإسلام) ويفصّل بعض ذلك الرحالة العربي الأشهر (ابن جبير) بقوله: (جدة.. قرية على ساحل البحر، وبها آثار قديمة تدل على أنها كانت مدينةً قديمة، وبخارج هذه البلدة.. مصانع قديمة تدل على قدم اختطاطها، ويذكر أنها كانت من مدن فارس، وبها جباب منقورة في الحجر الصلد، تتصل ببعضها البعض.. تفوت الإحصاء كثرة)، ليثني على قوله المؤرخ الشيخ جارالله بن فهد في كتاب (السلاح والعدة في تاريخ بندر جدة).. بقوله: (إن بجدة آثار ورسوم قديمة تدل على قدم اختطاطها، وأنها كانت مدينة كبيرة، وأنها كانت في زمن الفرس.. وهم الذين بنوا سورها الأول)..!!
و(جدة إن حكت).. فهي لابد وأن تحكي عن تاريخها الإسلامي الوضاء وتلك اللحظة القدرية الفارقة في حياتها: لحظة التقاء تاريخ «الزمان».. بجغرافية «المكان» عندما جاءها الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه في السنة الثالثة من ولايته عام 26هـ - 646م، وهو صاحب (الهجرتين) إلى الحبشة.. اللتين انطلقتا من مرفأ (الشعيبة) وإليها، ليرى بحرها ومرساها بعد أن شكا له الشاكون من الصعوبات التي كانوا يلاقونها في إبحارهم من (الشعيبة) وفي العودة إليها.. فاختار (جدة) لأن تكون مرفأً لمكة، لتكون تلك اللحظة.. هي لحظة ميلادها الثانية: الأعظم والأهم.. لحظة بدء رحلتها الأبدية نحو الحاضر والمستقبل.. وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، حيث جرى - بعرف اليوم - ما يمكن أن يسمى بحفل «تدشين» اختيارها.. عندما اغتسل الخليفة وصحبه في بحر الأربعين.. من شاطئها، وهو الذي يقع - اليوم - إلى الجنوب مباشرة من مبنى المركز الرئيسي للبنك الأهلي التجاري بحارة الشام.
وجدة إن حكت.. فهي لابد وأن تحكي عن تاريخها السياسي المتفرد، فمع وصول (البرتغاليين) إلى الهند عام 904هـ - 1498م.. وتسيير الملاحة والتجارة مروراً بميناء (عدن)، عبر (رأس الرجاء الصالح).. وصولاً إلى مياه الأطلسي وجبل طارق بمحاذاة السواحل الغربية لإفريقيا، وظهور الكساد الفعلي تبعاً لذلك.. على موانئ جدة والسويس والإسكندرية ودمياط، وفي ظل التحريض البابوي.. بالدعوة إلى (القضاء) على أعداء المسيح، التي بدأها البابا (نيكولاس الخامس) برسائله لأمير البرتغال منذ عام 859هـ - 1454م.. في ضرورة إخضاع الشعوب والأقاليم التي يسودها حكم أعداء المسيح، مع وعد منه بـ»العفو عند حساب اليوم الآخر، والفوز بالجنة»!! فكان أن قرأ «الباب العالي» ومصر المملوكية كل ذلك الذي كان يجري في العقول ويختبئ في الصدور.. ليقوم السلطان المملوكي (قنصوه الغوري) بوضع إستراتيجية للدفاع عن أمن البحر الأحمر، وموانئه الإسلامية بادئاً بميناء (جدة).. بتحويله إلى خط دفاع أول عن الحرمين ومصر وموانئها، وذلك ببناء سورها الرابع، الذي أنجزه القائد حسين كردي عام 912هـ - 1506م.. في وقت قياسي، وبأعلى درجات الجودة والإتقان.. تحسباً للحظة الغزو المحتملة، التي لا يُعرف متى ستأتي، ولكنها جاءت بعد أحد عشر عاماً (923هـ - 1517م).. لتجد في مواجهتها ذلك السور العسكري الضخم بمرابطيه، وخندقه وارتفاعه وأبراجه الست وإمكاناته القتالية الهائلة، ليصد الأسطول البرتغالي، ويدمره ويبعثر جنوده.. ويمزق أحلام قادته..!!
وجدة إن حكت.. فهي لابد وأن تحكي عن اتصالها المبكر بـ «العالم الخارجي».. عندما جاءها أول قناصل الغرب وسفرائه، فكان الهولندي فالبريطاني أو العكس (عام 1216هـ - 1802م)، ليتبعهما الفرنسي فالإيطالي.. إلى جانب سفارات الدول الإسلامية الكبرى (الهند ومصر وإيران).. فكان مجيء هؤلاء السفراء والقناصل مجتمعين ومتفرقين - كمجيء بناة السور.. من المعماريين الإسلاميين من أقاليم الإمبراطورية العثمانية المختلفة - مُلهماً ومعلماً ومحركاً لوعي أبنائها وسكانها المعرفي والثقافي، ثم تتابع بعد ذلك مجيء الرحالة البريطانيين والهولنديين والفرنسيين فالإيطاليين.. لكن أهمهم وربما أعظمهم كان الرحالة السويسري الأشهر (جون بيركهارت) الذي قدم إلى جدة - وهو يجيد العربية كأبنائها - عام 1230هـ - 1814م، ليقيم في الحجاز ومدنه الخمس (جدة، والطائف، ومكة، والمدينة، وينبع) عاماً بحاله.. وليكتب عنها جميعاً، ثم يخص جدة، وهو يعرِّف العالم بها أشمل وأجمل وأدق تعريف.. إذ يقول في واحد من مقاطع كتابه الكثيرة «رحلات في شبه الجزيرة العربية»: (مدينة جدة، مدينة متقنة البناء.. بل إنها تفوق في ذلك أي مدينة تركية بالحجم نفسه.. قد زرتها حتى الآن، كما أن طرقاتها فسيحةٌ ومهوَّاه مع أنها غير معبّدة، والمنازل قد بنيت بأكملها من الحجر الذي أُحضر من شاطئ البحر وهو من حجر المرجان)، ويقول في أخرى (لا تستمد جدة ثروتها من كونها مرفأ مكة فحسب.. بل يمكن اعتبارها مرفأ مصر والهند وشبه الجزيرة العربية، فصادرات تلك البلاد كلها والمتوجهة إلى مصر.. تمر أولاً عبر أيدي تجار جدة، لذلك فإنها تعتبر ربما أغنى من أي مدينة تضاهيها حجماً من المدن الخاضعة لسيادة وحكم الأتراك، ولذلك فإن اسمها العربي الذي يعني الـ»ثريا» قد جاء مناسباً لها تماماً)!! وقد حملته هذه الرؤية.. لتقصي واقعها المعيشي: الاقتصادي والاجتماعي.. ليكتشف أن بها أربعة عشر مليونيراً (يملك الواحد منهم خمسين ألف جنيه إسترليني)، وأن أثرياءها يبدلون ملابسهم مرتين يومياً في الصيف!! وعامتها يبدلونها مرتين في الأسبوع، بل وأن بها سبعة وعشرين مقهى.. إلى آخر ما قاله في ذلك المقطع الإحصائي الفريد..!
وجدة إن حكت عن أبرز أحداثها في القرن التاسع عشر الميلادي.. فهي لابد وأن تحكي عن ما عرف بـ «فتنتها» عام 1859م.. عندما ثار أبناؤها وسكانها على القنصل البريطاني بعد أن أنزل العلم العثماني من سارية إحدى السفن وداسه بقدميه ووضع بدلاً عنه العلم البريطاني، لتزحف جمهرتها.. بتلقائية لا تخلو من الشغب والعنف إلى دار القنصلية، أدت فيما أدت.. إلى مصرع القنصل.. الذي أهان علم الخلافة الإسلامية ومعه القنصل الفرنسي المتواجد معه آنذاك في موقع الحدث!! فتثور ثائرة الدولتين العظميين بريطانيا وفرنسا.. في المقابل، وتطالبان بعقد محكمة ثلاثية منهما ومن تركيا.. لمحاكمة رؤوس الشغب والفتنة، وتأتي المحكمة لتصدر أحكامها بإعدام أربعة عشر (متهماً) من بينهم محتسب جدة وكبير الحضارم بها.. إلى جانب نفي ستة من كبار أعيانها وشخصياتها، ليعبر المؤرخ الأستاذ محمد طاهر الكردي - صاحب (التاريخ القويم) - عن وقع ذلك اليوم في نفوس الأهالي قائلاً: (كان يوماً مهولاً في جدة، اشتد فيه الكرب على جميع المسلمين)، ولتصبح تلك الحادثة المروعة - بعد تماثل حدوثها وتكرار نتائجها في قرية (دنشواي) المصرية الشهيرة عام 1908م - وكأنها (دنشواي) الجزيرة العربية (الأولى)!؟
وجدة إن حكت عن تاريخها في القرن الماضي (القرن العشرين).. فهي لابد وأن تحكي عن استقبالها واحتضانها لجموع القوميين العرب من الوزراء والساسة والمثقفين والعسكريين، الذين تنادوا من الشام ومصر والعراق.. تلبية لدعوة الشريف الحسين، ليكونوا في خدمة مشروع (النهضة) العربية الكبرى، أو الثورة العربية على الحكم العثماني، التي دعا إليها من مكة الشريف الحسين في شهر يونيه من عام 1916م.. بهدف إسقاط الحكم العثماني عن أرض العرب وإقامة الدولة العربية الكبرى، وما تعنيه وتؤسسه تلك التجربة النضالية المشتركة.. بكل تفاصيلها والتي كان مسرح أحداثها - فيما بعد - (جدة) وبقية مدن الحجاز قاطبة.
وجدة إن حكت.. عن العقد الثالث من القرن الماضي، فهي لابد وأن تحكي عن قيام أول «حزب سياسي» فيها.. وهو (الحزب الوطني)، الذي تم قيامه بالاتفاق والتشاور بين رجالات مكة وجدة وتفاهمهم.. ليترأسه الشيخ محمد الطويل ويتولى أمانته العامة (السيد طاهر الدباغ)، فتكون أولى مهامه بعد التأسيس.. مطالبة (الشريف) بالتنازل عن العرش لابنه (علي) ومغادرة البلاد.
* * *
وجدة إن حكت عن أيامها مع وصول الملك عبدالعزيز إليها في الرابع والعشرين من ديسمبر من عام 1925م.. لإعلان انتهاء شهور الحصار والحرب الطويلة، فإقامته بدءاً من اليوم التالي بـ(بيت نصيف)، الذي تم إخلاؤه لجلالته وحاشيته.. فإنها لن تنسى أسطع تلك الأيام وأهمها على مستوى المملكة: يوم توقيع اتفاقية النفط الأولى مع شركة الزيت الأمريكية (استاندرد أويل أوف كاليفورنيا) بين (لويد هاميلتون) ممثلها، ووزير المالية (الشيخ عبدالله السليمان).. ممثل الملك عبدالعزيز.. بقصر خزام في التاسع والعشرين من شهر مايو عام 1933م.. بعد مفاوضات إعدادها الطويلة التي جرت بالتتابع.. في كل من (بيت نصيف) فـ(الفضل) فـ(البغدادي) حيث كان المقر الأول لوزارة الخارجية.. فاستقرار الشركة فيما بعد - وقد أصبح اسمها: شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) - في واحد من أجمل بيوت حارة الشام: (بيت باجنيد).. الفريد في موقعه، والمعجز في جمال عمارته، والذي وضعت صورته على غلاف كتابي السابق (جدة: الإنسان والمكان).
ثم ما تبع ذلك اليوم.. من أيام شكلت علامات ومحطات انتقال كبرى.. على مستوى المدينة وحياتها حاضراً ومستقبلاً، كيوم عودة الملك عبدالعزيز من لقاءيه التاريخيين والشهيرين في (ا لبحيرات المرة) و(بحيرة قارون).. على التوالي، مع كل من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت والزعيم البريطاني ونستون تشرشل في العشرين من شهر فبراير من عام 1945م.. واحتشاد جدة بمئات المئات من أبناء المملكة الذين توافدوا إليها، ليكونوا في شرف استقباله والاطمئنان عليه، فيوم أن فرح ورقص أهالي جدة جميعهم مع وصول مياه (العين العزيزية) إليها.. من (وادي فاطمة) في مطلع عام 1367هـ - 1946م، لتبدأ مرحلة توسعها شمالاً وشرقاً.. وتزايد أعداد سكانها تباعاً في قفزات رقمية مهولة.. حتى شارفت هذه الأيام على الستة ملايين مواطن ومقيم أو يزيد، بعد أن كانت قبل قرنين من الزمان لا تزيد عن خمسة عشر ألف مواطن.. وفق إحصائية (بوركهارت)، فيوم أن نزل ضيوف الرحمن والقادمين إليها من بوارجهم وبواخرهم مباشرة إلى (سقالتها) البحرية في شهر جمادى الأولى من عام 1369هـ - فبراير من عام 1950م -، دون لنشات أو سنابيك أو زوارق بحرية.. مع تعويض أصحابها وملاكها.. الذين قالت عجلة الزمن والتطور ببوار بضاعتهم، لتتربى على تلك التعويضات الذهبية في فكرتها أجيال من أبناء (المعادي).. كان من بينهم محدثكم هذه الساعة.
ثم كان يومها الآخر في عهد الملك فيصل.. عندما التقت نخبتها من أصحاب الرأي والفكر والقادرين من رجالاتها مجدداً وبعد طول غياب.. في مطالع الستينيات الميلادية، لتؤسس أول جامعة (أهلية) في الجزيرة العربية قاطبة، هي جامعة الملك عبدالعزيز الأهلية، بعد أن وضع رجل الأعمال الكبير محمد أبو بكر باخشت باشا.. مبلغ مليون ريال لإقامتها، ليلحق به رجل الدولة الأكبر الذي وصفه شاعرنا الفنان (حمزة شحاتة) بـ(عظيم) معالي الشيخ عبدالله السليمان.. عندما وضع أراضيه وأملاكه في الكيلو السادس من طريق مكة، والتي قُدرت قيمتها آنذاك بما يزيد عن ستة ملايين ريال.. لتكون مقراً للجامعة وإدارتها وحرمها المستقبلي.. وهو ما كان، وإلى أن تحولت لأن تصبح ثاني جامعة حكومية بعد جامعة الملك سعود في الرياض.
* * *
فإذا حكت جدة عن غير ذلك.. من تاريخها، فهي لابد وأن تحكي عن (بحرها): عشقها وهواها الأول.. ونافذة خيرها، ووسيلة تجارتها، وبوابة استقبالها لضيوف الرحمن قرناً بعد قرن وإلى أن اُكتشف الطيران.. وبدأ يحل تدريجياً محل تلك البواخر الضخمة: الهندية والمصرية.. كـ(الباخرة مظفر) و(جانكير شاه) الهنديتين و(التالودي) و(النيل) المصريتين، التي كانت تقل في رواحها وغدوها الألف والألفين والثلاثة آلاف حاج، فإذا أدركتها أيام الحج.. ظلت تنتظر في مياه الميناء طوال أيام عيد الأضحى، حيث تستقبل شباب جدة وطلبتها وأساتذتها.. للتعرف عليها وعلى قاعاتها وصوالينها ومطاعمها وغرفها وشرفاتها وملاعبها وقمرة قيادتها.. بصحبة قباطنتها وبحارتها.. حيث يكون الاختلاط، والتعارف، وتبادل الأفكار والرؤى والثقافات.
وهي لابد وأن تحكي عن تجارتها وتجارها.. الذين علمتهم الحياة وصقلتهم تجارب السنين حتى شربوا (أسرار المهنة) وأصولها.. فغدوا على أعلى درجات التخصص في كل فرع من فروعها، ويكفي أن أتذكر وأذكر أسماء أولئك الذين كنت أرى متاجرهم على مدى سنوات دراستي الاثنتي عشرة (الابتدائية والإعدادية والثانوية).. بامتداد (الخاسكية) والسوق الكبير: من زينل إلى الناغي والبحراوي والكعكي وبن محفوظ والباشميل والشربتلي والسبحي وأبو العينين وسلاَّم وعبدالفتاح والدخيل (الصيدلي) والمورية والمرازقة وعبدالعزيز وعبداللطيف جميل، وملعاط والخواجة (يني) وعلي محسن وأبو رعيان والسمكري والبنفش والفتيحي والصنيع والزقزوق والمتبولي والباعشن وبيت إسماعيل والسندي والدخيل (البنك) والخضري والعامودي والباريان والباديب والأصفهاني والأفندي والصوري واليغمور والبغدادي والملا والأعمى وأبو زنادة والبترجي ويونس سلامة والناظر والباجسير وشنكار وبن زقر وأبو داود وباناجه.. فقد كان ما يزيد عن ثلث أهالي جدة يعملون في التجارة، بينما كان الربع أو أقل منهم من (المعادي).. الذين يعملون بـ(البحر): وكلاء للبواخر، وملاكاً للسنابيك واللنشات والقليل من «السواعي»: بحارة وعمالاً ومساعدين فوقها، وربابنة في إرشاد السفن القادمة إليها.. من أمثال آل سلامة وآل الرقبان، إلى جانب وكلاء المطوفين وموظفيهم المنتشرين في كل أحيائها. فإذا كان رجال المعادي قد انتهوا فعلياً بقيام (السقالة)، وانتهى دورهم بعد ذلك مع آخر شيوخهم (الشيخ حسن بكر)، فإن التجار كانوا أكثر وعياً ومعرفة وإدراكاً لسنة التطور وفرضياتها.. ليقيموا في وقت مبكر أول (نقابة) لهم.. أو (غرفة تجارية) لهم بحسب المسموح به من المسميات.. في الخامس عشر من شهر صفر من عام 1365هـ الموافق للثامن عشر من يناير من عام 1946م لتناقش قضاياهم وتدافع عنهم، وتضبط أخلاقيات التعامل بينهم وبين جموع المستهلكين.. برئاستي: الشيخ محمد عبدالله علي رضا، والشيخ أحمد محمد صالح باعشن، ولتصبح غرفتها التجارية هذه - فيما بعد - وكأنها المعمل الأول لتخريج وزراء التجارة.. حيث كان وزير التجارة الأول في أول وزارة يتم تشكيلها عام 1373هـ هو الشيخ محمد عبدالله علي رضا، ثم تبعه الشيخ محمد العوضي، ثم الشيخ عابد شيخ وأخيراً عبدالله أحمد يوسف زينل.. دون أن تنسى دورها البناء في خدمة مدينتها، والذي بلغ الذروة دون شك أيام ثنائية: الشيخ إسماعيلأبو داود رئيساً والدكتور عبدالله صادق دحلان.. أميناً.
وهي لابد وأن تحكي عن عمارتها وعمرانها ودورها الفارهة، التي ما يزال ماثلاً بعضها حتى اليوم.. كتاباً مفتوحاً في جمال العمارة ودقتها وأناقتها، بينما أكباد أبنائها تتقطع وهم يرونها تتآكل يوماً بعد يوم..!!
وهي لابد وأن تحكي عن (الرياضة) و(الفن).. فقد كانا متلازمين في حياتها وكأنهما توأمان، فـ «عمادة» كرة القدم التي خُص بها نادي الاتحاد.. لم تكن إلا اعترافاً تاريخياً بواقع ما عاشته وعرفته جدة، وإن غاب صنوه نادي (الهلال البحري) عن هذا الشرف.. بعد أن اختفى تنظيمياً بعد أكثر من خمسين عاماً.. من أجل توحيد الموسم الكروي في المملكة، وحتى لا تتكرر أسماء الأندية في مدنها الرئيسية، فكان شبابها يلعبون كرة القدم عصراً.. ويصهبون مساءً.. ويغنون في مقاعدهم (أنديتهم) المنتشرة في أرجاء المدينة وأحيائها، كلما أقبلت طلائع الليل.. عن (بلد المحبوب)، و(الحمام) الذي جاء من الطائف (صنعاني يبغى ولايف)، أو طيرهم الباكي في «مجرورهم» الأشهر (يا طير ماذا الصياح.. ذكرتني بالحبايب)، ولا أظن أن أحداً من الأجيال المعمرة قد نسي فنانها الكبير (عمر باعشن) وعراقته.. أو فنانها الشاب (أحمد قشلان) وعصريته، اللذين ورثهما من بعد عدد من الفنانين: كالأستاذ «محمد سندي» بـ(داناته)، و»فوزي محسون» بـ(مجاريره)، و»علي عبدالكريم» بـ(تحديثه) و»عبادي الجوهر» بعزفه المتفرد على العود و(طقاطيقه)، على أن الفن: غناءً وعزفاً.. لم يقف على مجتمع الذكور وحدهم، بل عاشه مجتمع جدة النسائي.. الذي كان حاضراً في كل أوجه حياتها، فليس من نساء جدة من لا تتذكر أشهر فناناتها: (عتيبية) وسلطنتها أو (نجيدية) وزفتها أو (فيومية) وطقاطيقها.. اللواتي ورثتهن نجمة الفن والغناء النسائي في جدة فيما بعد: الفنانة (فتحية يحيى) أو (توحة)، ولقد كان ملفتاً أن لا يكون فن العزف والغناء وقفاً على (محترفيه) طلباً للرزق أو لكسب العيش.. ولكنه كان هواية، وثقافة ومتعة، يمارسها القادرون والميسورون والشعراء والأدباء ممن لا حاجة لهم بالتكسب من الفن.. من أمثال السيد عباس مختار، والأستاذ أحمد عبدالفتاح، أو الشاعران الكبيران: حمزة شحاتة، وأحمد قنديل، أو الشابان آنذاك (علي العتيبي) و(حسن باناجه).
وهي لابد وأن تحكي عن ريادتها الصحفية والأدبية.. مع مطلع القرن الماضي، فمنها انطلقت صحيفة (الإصلاح الحجازي) أولى الصحف (الأهلية) عام 1909م.. بعد عام من صدور صحيفة (القبلة) الرسمية في مكة، التي أصدرها وترأس تحريرها الشريف الحسين.. نفسه، ثم تبعتها صحيفة (بريد الحجاز) الشهيرة.. عام 1924م.. خلال ولاية الملك علي، فـ(الأضواء) و(الأسبوع التجاري) في خمسينات القرن الماضي.. لتلحق بهم (مجلة الرائد) التي تحولت إلى صحيفة أسبوعية في آخر أيامها.. من أوائل الستينات، فالصحف الإنجليزية الثلاث الأول: (ريبابلك) لسيف الدين عاشور و(عرب نيوز) للشقيقين هشام ومحمد علي حافظ و(سعودي جازيت) لعلي شبكشي مدير عام مؤسسة عكاظ الصحفية، ومنها انطلق ثالث كتب الافتتاح إصداراً وأولها قيمة وأهمية في العهد السعودي.. بل وأشجعها وأجرأها.. كتاب (خواطر مُصرحة).. لأول أدباء جدة والمملكة عموماً: الأستاذ محمد حسن عواد.
* * *
إخواني وزملائي:
سيداتي وسادتي:
إن كل هذا التاريخ.. بطوله وعمقه.. بمكوناته وتراكماته، هو الذي صنع ألق جدة وتميزها وجاذبيتها وسبقها في النهاية.. حتى ليبدو شعار (جدة غير) - الذي تم صكه.. مؤخراً - وكأنه ترجمة حرفية لواقعها التاريخي، ولذلك ما كان عجيباً.. وقد جلست أحصي من الذاكرة أعداد أدبائها وشعرائها وكتابها وفنانيها - استعداداً لهذه الندوة -.. أن أجد بين يدي ما يزيد عن المائة أديب وشاعر وكاتب وفنان، أعظمهم دون شك من قال:
(من هنا شع للحقيقة فجر من قديم.. ومن هنا يتجدد)
وأبلغهم ذلك الذي قال:
(بعد صفو الهوى وطيب الوفاق
عز حتى السلام عند التلاقي)
وأكثرهم شباباً.. هو ذلك الذي قدم لي في إحدى المناسبات الثقافية روايته الجميلة والجريئة: (سور جدة).. واختفى.
وبعد..
إن بكت جدة اليوم.. ولها الحق في أن تبكي على حال منطقتها التاريخية الفريدة: دمعاً ودماً.. ففي دموعها: آهات وأسئلة حائرة.. لم تجد لها جواباً رغم عشرات الاجتماعات الرسمية التي عقدت، والدراسات التي قدمت من مؤسسات فرنسية وإيطالية وأسبانية متخصصة.. في فن الحفاظ على التراث العمراني وإبقائه نضراً كما وُلد، وهو ما يجعلني أعيد اليوم طرح بعضها.. فـ(أين) أبناؤها وأحفادها الذين أسهموا في صناعة اسمها وتاريخها؟ وأين مجلسها البلدي..؟ وأين (أمانتها) التي أقامت وجوداً إدارياً في قلبها.. واكتفت، دون أن يتبع هذا الوجود دعماً مالياً حقيقياً منصفاً.. يتكافأ مع مكانتها ودورها وتاريخها وما قدمته، لإعادة فرش شوارع منطقتها التاريخية بالحجارة، وترصيفها وإضاءتها وتشجيرها.. وترميم تلك الـ(خمسة والسبعين) منزلاً وليس المئة والخمسة والسبعين، التي تمثل القائمة الذهبية من منازلها ودورها.. حسب شهادات كبار أساتذة العمارة وفنانيها.. في العالم.
إنني أخشى على أمانتها، وإدارة منطقتها التاريخية.. وهما يجدَّان - كما أعلم - في استقطاب المسؤولين الرسميين، ومثقفي الغرب والشرق لاستزارتها، فيسعدون بما يسمعونه منهم.. أن لا يجدوا بعد سنوات قليلة شيئاً من ذلك العمران الباهر والفاخر، الذي تحافظ على ما دونه قيمة أفقر الشعوب والحكومات.
إلا أن الأمل مايزال معلقاً بشخص أمير منطقة مكة المكرمة الأديب والشاعر والفنان (خالد الفيصل).. في التفاتة جادة لهذه المنطقة، وهو قادر عليها، وجدير بها.. فهي إحدى محكات (العالم الأول) الذي يدعو إليه سموه وسط تمنياتنا.
dar.almarsaa@hotmail.com