الأستاذ محمد العربي المساري هو واحد من رجال الفكر والإعلام المتميزين في المغرب والوطن العربي؛ وهو رجل أستحضر فيه القدوة الحسنة والعطاء المتميز ومضاء العزيمة ونكران الذات.
وهو رجل يتمتع بقوة الذاكرة والذكاء في اختيار الألفاظ والمعاني والتحليل المنطقي للوقائع والأحداث والتنبؤ بالمستقبل؛ وهو رجل يتمتع بالإرادة القوية والعزيمة المثلى في الثبات على المبادئ بين شتى التجاذبات والعراقيل والمغريات، والدعوة إلى التغيير والتجديد في التفكير بحركة العصر.
وقد وصفه قيدوم الأكاديميين المغاربة الأستاذ عبدالكريم غلاب في شبه خيال فكري بقوله: دعوني أحلم حلم يقظة وأرى في رؤياي أنه لو جاء قوم بعدنا بقرون عديدة وأرادوا دراسة أدب وفكر عصرنا لاشترطوا عدداً من الشروط في هؤلاء أولها إتقان اللغة وثانيها شساعة التفكير وثالثها الإلمام بالتاريخ، ولو بحثوا عن كاتب تتوفر فيه هذه الخصال لوجدوها في محمد العربي المساري الرجل المتطلع المهتم دوما بما سيأتي صاحب قلب حار ومتحرر، هذا التحرر وهذه الحرارة كانت هدية وديدنه في كل المجالات التي اشتغل بها وأعطاها اهتمامه في السياسة عند ما كان رئيسا للفريق البرلماني الاستقلالي وفي الحزب وفي الدبلوماسية، لكن الكتابة ظلت هي الوسواس الخناس الذي لم يفارقه طيلة كل هذه الانشغالات، وهكذا كتب في عدة ميادين، واطلاعه على اللغات جعله كاتبا حقيقيا يقدم دائما ما هو جديد للقراء لا يهمه طول الكلام، بل يهمه قصر الكلام وعمق مضمونه، يختار موضوعاته، وفي الصحافة لما كان يكتب لم يكن يذعن لإكراه الصحافة التي تجعل الصحافي وهو يواجه فراغ الصفحة يبحث عن شيء يملأ به، لقد كان العربي المساري لا يملأ فراغا بل يملأ مكانا مما يجب أن يُملأ، كان مجتهدا بتكرار المعطيات باحثا عنها، مدققا في أصغر التفاصيل ولا أدل على ذلك كتابه الأخير “محمد الخامس من سلطان إلى ملك”، فالعنوان قد يبدو سهلا، لكن المتمعن فيه يجد فيه عملا ضخما وذكاء كبيراً في استغلال الجزئيات، محمد الخامس الذي نُفي سلطانا عاد من المنفى ملكا وشتان بين كلمتي سلطان وكلمة ملك، هذا التعبير الذي حصل في زمن سنتين وثلاثة أشهر من المنفى، وهي الفترة الحبلى بالكثير من الحراك والتغيرات التي عرفها المغرب حول قضية الاستقلال وقضية التشبث بمحمد الخامس كرمز لهذا الاستقلال”.
قبل أيام وأنا في طريقي من فاس إلى مطار الدار البيضاء، التقيت به في الرباط لدقائق معدودات وحكى لي قصة فريدة من نوعها موثقة في تاريخ المغرب، وتؤكد بجلاء دور المغرب التاريخي في تثبيت السلم في المنطقة؛ والقصة وقعت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حيث إن كل المؤلفين المغاربة منهم والإسبانيين، يذكرون أن الخطوات الأولى لملك المغرب في معالجة مسألة الأسرى كانت تقوم على المفاداة والافتكاك عن طريق التعويض. ثم أخذ يدرج في الاتفاقات التي كان يبرمها مع الدول الأوربية، بنودا ترمي إلى تبادل الالتزام باجتناب الاسترقاق.
وعلى صعيد ثنائي مع إسبانيا، يقول لوريدو، “كان الشرف لسيدي محمد بن عبدالله، أن قام بالخطوة الأولى لصالح أسرى كل من البلدين. وما كان من كارلوس الثالث من جانبه إلا أن انفتح بكيفية نبيلة مع الدعوات الإحسانية للعاهل المغربي. وبذلك تمهد الطريق للعلائق الديبلوماسية فيما بين البلدين. فتم تبادل السفارات، وقامت هذه بالإضافة إلى إبرام ميثاق للصداقة والتجارة، بإعادة كل الأسرى إلى ديارهم، بعد أن رزحوا في المعتقلات الإسبانية والمغربية. وتم تبادل العبيد نهائيا في 1767”.
ويكرر كاستيانوس نفس المعنى إذ يقول: وحينما أنهى سيدي محمد بن عبدالله، فترة ملكه كان قد أسدى خيرا كبيرا للبشرية بمنعه القرصنة ومنحه الحرية إلى العديد من الأسرى الذين كانوا في مملكته. ويتوسع ابن زيدان في المسألة ويشرح كيف أن سيدي محمد بن عبدالله بذل مجهوداً مالياً ذا بال من أجل افتداء الأسرى المنتمين لبلدان إسلامية أخرى كانوا في قبضة أقطار أوروبية مثل مالطة والبندقية.
ويروي لنا كيف اهتم الملك في وقت مبكر من حكمه بتقوية البحرية المغربية، التي كانت متدهورة. فكان له أسطول بحري له اعتبار، يضم 60 رئيساً بحريا تحت إمرتهم 27.000 بحار. ويقول في “الإتحاف” كان له 20 مركباً بحرياً كبيراً من المربع. و30 من الفلاكيط. وعدد عسكره البحري من المشارقة ألف، ومن المغاربة ثلاثة آلاف. ومن رماة المدافع 40، ومن عسكر أرقاء العبيد 15 ألفاً، ومن الأحرار 7 آلاف.
أي أن سياسة محمد الثالث بشأن السلم في البحر، كانت نابعة من رؤية سياسية. وقد وصفه كانوفاص ديل كاستيو، في كتابه “هوامش على تاريخ المغرب” بأنه كان ملكا جديرا بمنصبه بكل الاعتبارات.
لقد كانت الاتفاقات الرامية إلى إقرار السلم في البحر التي توصل إليها، ثمرة تأمل ناضج في العلاقات الدولية، التي كان يرى أنها يجب أن تتأسس على الاستقرار والاحترام المتبادل. فكان هذا هو الهدف من وراء مختلف البعثات التي وجهها إلى فرنسا وإنكلترا والسويد والإمبراطورية العثمانية.
ومع إسبانيا، فإنه بمجرد تسوية مسألة الأسرى، تم في 1767 إبرام المعاهدة المشهورة للسلم والتجارة. وتم التمهيد لها بهدوء وانسجام، وذلك على يد سفيره أحمد الغزال، في 1766، الذي حققت مهمته نجاحا كاملا. وكان سيدي محمد بن عبدالله قد عهد إليه بأن يحصي عدد الأسرى المغاربة في إسبانيا، وأن يوزع عليهم الهبة التي خصهم بها، والتمهيد مع السلطات الإسبانية لإعادتهم إلي بلدهم.
وكانت المجاملات التي أحيطت بها البعثة، طيلة رحلتها، وفي البلاط، قد أحدثت وقعا قويا، به تم تكييف العلاقات الثنائية فيما بعد. وهو ما أدى إلى إعداد المعاهدة. وسيادة جو من الثقة بين البلدين.
وفي ذلك الجو طلب كارلوس الثالث من صديقه محمد الثالث، أن يتدخل لدي والي الجزائر، قصد أن تتم معهم مفاداة للأسرى على غرار ما تم مع المغرب. وتم بالفعل التوصل إلى ذلك ولكن بشيء من الصعوبة. إذ كاتب سيدي محمد بن عبدالله حاكم الجزائر مرة أولى وثانية وثالثة كما جاء في “الإتحاف”. وكان الأساس هو المفاداة رجلا برجل. وفجأة برزت مشكلة، إذ فهم الجزائريون أن إفراجهم عن الأسرى الإسبانيين كان سيتم في مقابل تعويض مالي.
ويقول أكنسوس في “الجيش العرمرم” إن التسوية كانت تنص على أن تكون المفاداة على أساس الرئيس بالرئيس، والبيلوط بالبيلوط، واليكانجي بالكانجي، والجندي بالجندي، والبحري بالبحري. ومن فضل عنه فعن إفراد البحرية خمسمائة ريال، والرئيس بألف ريال.
واستاء كارلوس الثالث من تصرف الجزائريين، حينما اشترطوا المال، واضطر إلى دفع التعويض كما طلبوا، وحرص على أن تتم المفاداة بواسطة ملك المغرب الذي كلف بهذه المهمة سفيره الغزال الذي أنجز الصفقة مع إسبانيا. ويذكر أكنسوس أن عدد الجزائريين الذي وقع افتكاكهم حينئذ كان 1600.
وبعد ذلك بنحو عشرين عاما، وقعت مشكلة أكثر تعقيدا، حينما اختطف القراصنة الجزائريون أميرة إسبانية كانت في طريقها إلى نابولي. وطلب كارلوس الثالث مرة أخرى وساطة صديقه محمد الثالث، موضحا أنه مستعد لأداء الفدية مهما كانت.
وكانت المفاجأة عظيمة حينما قال حاكم الجزائر إنه مجرد حاكم، أما القرار بشأن الأميرة فهو بيد قادة الجيش، وأن هؤلاء يرفضون الفدية. فما كان من سيدي محمد بن عبدالله إلا أن كتب رسالة احتجاج إلي السلطان العثماني الذي قام بدوره بتوبيخ حكام الجزائر، لأنهم ردوا وساطة ملك المغرب، وأمرهم بأن يحلوا المسألة في أسرع وقت، رعاية لملك المغرب الذي بذل جهودا سياسية ومالية لها اعتبار، طيلة سنوات عديدة، من أجل افتكاك الأسرى المسلمين من يد الممالك المسيحية. ووقع الإفراج عن الأميرة وسلمت لملك المغرب.