بدأ منذ مطلع هذا الأسبوع، وربما أواخر الأسبوع الماضي موسم الرحيل المؤقت القصير خلال إجازة عيد الأضحى المبارك إلى مدن العالم، القريب منها والبعيد! أما الرحيل الطويل أو ما يمكن أن نسميه بالبيات الصيفي فيمتد ثلاثة أشهر للقادرين الموسرين الذين لا يسألون كم سينفقون، وشهرا أو أقل منه بأيام لمن يقترضون ويجمعون الألف مع الألف تقتيرا وتضييقا في الإنفاق طوال السنة للاستمتاع بشهر في السنة!
لن أسأل عن الأموال التي تنفق في الخارج، وأن من شأنها أن تزيد من وتيرة الحركة الاقتصادية في الداخل لو أن مجالات الإنفاق والصرف في الخارج متيسرة ومفتوحة في الداخل؛ لكنني أثير أسئلة أرى أنها أجدر وأحرى بالاهتمام من إنفاق المال إلى الإجابة عن سؤال أهم: لماذا الرحيل ولو لأيام معدودة، وكأن هذه المدينة خانقة ثقيلة لا يطيق أهلها عليها صبرا، فيغتنمون أي إجازة مهما قصرت أيامها لتجديد الروح، وتغيير المزاج، والتسرية عن النفس بعد أشهر من الحصار والتكرار الممل بين المنزل والعمل والمطعم أو المقهى!
هؤلاء معذورون والله! لهم في انتشارهم في مدن العالم القريبة منا جدا كدبي مثلا، أو البعيدة عنا كتركيا ودول أوروبا كل العذر لمن وجد إلى هذا الانتشار سبيلا وحيلة!
فهذه مدينة كئيبة حقا، مدينة تطرد البهجة، مدينة تطاردك بالسأم والملال، وتقحمك إقحاما في أن ترغب في العمل ولو لم تكن تحبه، تدفعك إلى أن تتعشق أعمالا وتتطلبها في غير رغبة ولا اقتناع فرارا من السآمة والتسكع في الشوارع أو بين المقاهي أو الاتصال بفلان وفلان وحرق الوقت كل ليلة من مجلس إلى مقهى، ومن ثلة أصدقاء إلى جمع آخر قد لا تكون منسجما كل الانسجام مع كثيرين منهم؛ ولكنك إن دققت وأمعنت النظر فيمن يصلح ومن لا يصلح فإنك ستعود أيضا إلى وحدتك الثقيلة وأوهامك السلبية التي لن تجد فرصة لغزوك «والإكباس عليك» إلا حينما تكون منفردا خاليا بنفسك دون صديق أو معين أو مسلٍ أو حامل تعب عنك ودافع ملالة وسأم!
أين تذهب أيها الفتى في مدينة صامتة لا تتحدث، في مدينة ليس فيها مجال إلا للعمل أو النوم! لمدينة تفصل ساعات اليوم تفصيلا بعدل دون ضيم على السأم أولا ثم على بين الواجبات الثقيلة، دون التفاتة لطيفة إلى ما يخفف تلك الأثقال مما يسلي النفس ويطربها ويطريها ويبهجها!
أين تذهب والمدينة تتوشح بكثير من الرزانة والاتزان الأقرب إلى التصوف السطحي البعيد عن معناه الفلسفي العميق، وكأنك وأنت في يومك منذ أن تبدأه من عمل صباحا إلى عمل مساء ثم من سوق ربوة للفاكهة والخضار إلى سوق عتيقة للجملة ومن سوبر ماركت إلى آخر تغدو وتروح تحيط بك السكينة، ويحف بك الأمن في رحلة التصوف هذه وجلا خاشعا لا غاية لك ولا مأرب إلا تحقيق وتطبيق هذا الجدول المرسوم المحسوم طوال أيام الأسبوع ولا يفصله أو يغير إيقاعه إلا اغتصاب زيارة أو موعد مع صديق أو أكثر في مقهى غير ناء تقطع به أوصال الوقت وتدفع به سأم الملال والتكرار!
هل يمكن أن تجد في مدينتك هذه غير مطعم أو مقهى إن قصدته أنت وعائلتك لتبديل إيقاع البرنامج اليومي الممل فإنك أيضا ستقع في البرنامج نفسه وستتناول وجبتك أو تشرب أقداح شايك الأخضر أو الأسود أو أكواب قهوتك اللاتيه أو الكابتشينو وأنت في عزلة ثانية عن العالم حين يخبئك العامل أنت وعائلتك خلف ستار عازل من «البارتشن» يحجبك ومن معك عن الحياة والناس وكأن ثمة ما يخجل أو ما يخشى منه أو أن عيونا تتربص بك وبهم، فأنت أيضا لم ترحل من بيتك ولم تغير أجواءه ولم تر أحدا ولم يرك أحد!
هل تحفل هذه المدينة بما يدفع عنها جحافل السأم بما تحفل به مدن العالم من وسائل البهجة وألوان التسلية والتثقيف والترويح؟! هل يمكن أن تجد فيها صالة سينما أو مسرحا؟! هي يمكن أن تجد فيها شارعا حيا للمشاة تتناثر على جنباته المقاهي والمطاعم المكشوفة بدون «براتشن» ولا حواجب، يرى فيها الناسُ الناسَ، ويشعر الجميع بقربهم من بعضهم لا بتوحشهم من بعضهم؟! وتجد في هذا الشارع للمشاة كما في كل مدن العالم ما يسلي الأطفال ويدخل على نفوسهم الفرح من لاعبي خفة اليد والبهلوانات والإضحاك؟
أنت في مدينة تفتقد حتى اللمسات الروحية والنفسية المجملة في حيطان مرسومة أو مجسمات جمالية فنية مبدعة أو نوافير مائية ملونة مضاءة حافلة بالأضواء وصوت الماء، لا شيء هنا سوى كتل عالية كبيرة من الإسمنت وكتل أخرى عالية أيضا من الملل، لا شيء هنا سوى نزوع إلى الصمت والوحدة والعزلة والعمل الذي لا يعشق لذاته؛ بل للقضاء على ما تتركه الساعات الطوال بدون عمل وبدون بدائل أخرى مبهجة!
حق للراحلين المنتشرين في مدن العالم ما قصدوه من تغيير وتسلية وإرواء للروح وإشباع للنفس لكي يتزودوا في إجازتهم القصيرة هذه لأشهر طويلة قادمة من الضجر عليهم أن يقطعوها تقطيعا بين النوم والعمل!
moh.alowain@gmail.commALowein@