عندما تقدمت حياة سندي إلى جامعة كمبريدج لإتمام رسالة الدكتوراه في التقنية الحيوية وعلم الأدوية استقبلها المشرف على رسالتها بعبارة (فاشلة.. فاشلة.. فاشلة)؛ وذلك لارتدائها الحجاب، وهو ما لا يؤهلها - حسب اعتقاده - للبحث العلمي وخلطها بين الدين والعلم! وباحترامها لذاتها وهويتها، وبإصرارها على التحصيل والإنجاز،
وما هي إلا أشهر عدة حتى حظيت باحترام ذلك الدكتور وبقية الأساتذة، إلى حد أنهم صاروا يمتنعون عن الأكل أمامها وهي صائمة في رمضان. تقول الدكتورة حياة عن بداية حياتها العلمية في بريطانيا عندما كانت تدرس اللغة الإنجليزية؛ لأنها كانت ضعيفة فيها: “مرحلة لا أذكر خلالها أنني تمتعت بنوم عميق لقلقي وخشيتي من الفشل، ونجحت نجاحاً أهَّلني للقبول في جميع الجامعات التي تقدمت لها”. فماذا نقول إذا علمنا أنها أكملت حفظ القرآن الكريم كاملاً في بيئة غربية مغايرة تماماً لبيئتها المكية، وفي صقيع الغربة، ومع أعباء وحمل البحث العلمي؟.. أليس لكفاح هذه الأنثى جدارة بأن يدرَّس في الجامعات ومدارس التعليم العام وللبنات بخاصة، بوصفه مثالاً حياً لمواطنة شرَّفت حضارتها الإسلامية وبلدها، وما زالت تنجز وتقدم ثمرات فكرها وعلمها؟..
أقول للبنات بخاصة، وفي مختلف المراحل الدراسية؛ لأنهن ينشدن القدوة الحية، بدلاً من هذه الدمى البشرية من مغنيات أو ممثلات تافهات.
عندما تقرأ سيرة هذه السيدة تتملكك الدهشة الممزوجة بالتقدير والإكبار لعزيمتها وإصرارها، فبعد خمس سنوات من البحث، وعند اقتراب إتمامها رسالة الدكتوراه، فوجئت بخطاب من عميد الجامعة يطلب منها تغيير البحث والبدء برسالة وبحث جديد، وذلك دون مبرر واضح! وكان ذلك قبل انتهاء المنحة بتسعة أشهر، فكان أن بدأت بالفعل بحثها الجديد، ولكن.. انتهت بعثتها فكان أن تكفل صاحب القلب الكبير الملك عبدالله، حين كان ولياً للعهد آنذاك، بتكاليف بعثتها المتبقية؛ فأتمت رسالتها، ونالت شهادة الدكتوراه. فانظر إلى رهافة حس هذا الرجل وبُعد نظره، وانظر لإصرار هذه المرأة وكفاحها الذي قلما يوجد مثله. وما يدعو لاحترام هذه السيدة هو أنها بالرغم من فتح أعتى صروح العلم الدولية أبوابها لها بكل ترحيب وحفاوة إلا أن ذلك لم يدعها للتخلي عن هويتها وحجابها، وبكل هدوء ودون تكلف، وعن قناعة راسخة، وهذا ما يدعو الآخرين لاحترامها. هذا ناموس كوني معروف، وكأنها تمثلت قول زهير بن أبي سلمى:
ومن يغترب يحسب عدواً صديقه
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
فهل هناك من تقدير دولي أكبر من أن تدعوها وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) للعمل فيها وهي في السنة الثانية من مرحلة الدكتوراه! أو أن تختارها منظمة tech pop المستقلة ضمن أفضل 15 عالماً في العالم للمساهمة في تغيير وتحسين وضع العالم والأرض بأبحاثهم وفكرهم، رغم أن الانضمام لهذه المنظمة صعب للغاية، ويتم حسب معايير غاية في الدقة، باستثنائها فقد اختيرت هي اختياراً.
وجاء اختيارها لتكون سفيرة للنوايا الحسنة لمنظمة اليونسكو آخر أخبار تكريمها على المستوى الدولي؛ لتشرف حضارتها الإسلامية وبلدها الذي يفخر بها وبأمثالها.
هذا البلد يزخر بالعقول والكفاءات التي تحتاج فقط إلى الرعاية والتحفيز والبيئة التي تستفز هذه القدرات والطاقات الخلاقة، كما تحتاج إلى تقديم القدوات بعد تكريمها وتشجيعها هي أيضاً؛ لتستنهض من أقعده التردد أو الإحباط أو الخوف من الرفض والفشل. تحية لهذه الأنثى، تحية لهذه الشعلة الحضارية. والله يرعاكم.
omar800@hotmail.com