استمتعت كثيرا - اطلاعاً وقراءة - بكتاب (المساكن الفلاحية التقليدية بمحافظة عنيزة وسط المملكة العربية السعودية) لمؤلفه الدكتور أحمد بن محمد العبودي الأستاذ في جامعة الملك سعود بكلية السياحة والآثار/ قسم الآثار. ومبعث استمتاعي عدة أمور منها أن الكتاب تحدث عن المساكن الفلاحية في محافظة عنيزة التي ولدت وترعرعت فيها، كما تطرق للحديث عن حالة عشتها أيام طفولتي المبكرة جداً! حيث إني ابنة بيئة فلاحية تقليدية ولا زلت أحن إليها! إضافة لولعي الشديد بالآثار مهما كان نوعها.
الكتاب يقع في 166 صفحة، ويتكون من خمسة فصول وتليها المصادر والمراجع العربية والمعربة والإنجليزية وفي نهايته جدول للألفاظ الفلاحية الدارجة مضبوطة بالشكل بحسب نطقها من قبل أهل عنيزة، وبيان معانيها ودلالاتها. كما احتوى الكتاب في ثناياه العديد من الصور واللوحات التشكيلية الإيضاحية.
عنْوَنَ الكاتبُ الفصلَ الأول بـ(البيئة والإنسان) وقسمه لأربعة أقسام أولها «الإطار البيئي لمدينة عنيزة» بيَّن فيه الموقع الجغرافي لمدينة عنيزة بالنسبة للمملكة وعرج على تضاريسها ومناخها وأثرهما على الزراعة فيها.
أما القسم الثاني فيدور حول «تاريخ الاستقرار البشري بعنيزة» وتحدث فيه عمن استوطنها قبل الإسلام وحتى وقتنا الحاضر وذلك بسبب توسطها بالجزيرة العربية ووفرة المياه والغذاء فيها. واستشهد بالكثير من المراجع القديمة ومقتطفاتٍ من قصائد شعرية؛ والتي ورد فيها ذكرٌ لعنيزة أو بعض الأماكن المجاورة لها. وثالث الأقسام تطرق لـ «عنيزة في وصف الرحالة» حيث أوضح المؤلف أن العديد من الرحالة الغربيين والعرب قد زاروا مدينة عنيزة وذكر منهم البريطاني جورج فوستر سادلير والذي وصلها عام 1819م، ثم توالى الرحالة على زيارتها لأسباب مختلفة ومشكوك في بعضها ! وكل واحد منهم يرصد حالة مختلفة عن الآخر فمنهم من رصد الأحوال السياسية وآخر رصد الحياة الاجتماعية وثالث تحدث عن العمران وغير ذلك، وكل منهم يسهب بالحديث عن مشاهداته في عنيزة. ولعل أجمل ما قرأته تصريح الرحالة الإنجليزي تشارلز مونتجيو داوتي حيث قال (إن اليوم الطيب الوحيد الذي قضيته في شبه الجزيرة العربية هو ذلك اليوم الذي كان في عنيزة). وكذلك زار الرحالة أمين الريحاني عنيزة عام 1922م ولفت انتباهه ازدحامها بالسكان، وتطرق لكرم أهلها وسماحتهم وتحدث عن الجوانب الاقتصادية والتجارية والزراعية بإيجاز.
أما القسم الرابع في هذا الفصل فيدور حول «حيازة الأرض الفلاحية في مدينة عنيزة» ووضح فيه مفهوم حيازة الأرض للفلاحة والزراعة، وطريقة تملك الأراضي للزراعة سواء ما كان منها خارج النطاق العمراني أو المجاور له، وكيفية إحياء الأرض البيضاء بزراعة أشجار الأثل حول حدودها.
كما ذكر أسلوب التملك عن طريق المصادرة عند عجز الفلاح سداد الدَّين الذي اقترضه من أجل الفلاحة ؛عندئذٍ يصادر المقرِض الأرضَ أو ثمار المزرعة! ولكن المؤلف أشاد بالتجار بأنهم لم يكونوا من الإقطاعيين. وكذلك تحدث بهذا القسم عن نظام (الصُبْرَة) وهو يقوم على نظام تأجير المزرعة لمدة زمنية متفق عليها مقابل مبلغ مادي مقطوع. وختمه بالحديث عن المحاصيل الزراعية التي تنتجها المزارع، وما لفت انتباهي ذكره لإنتاج الباميا والملوخية والبطاطس وهذه - بتصوري - لم تكن معروفة لدى المزارع في الوقت الذي تتحدث عنه الدراسة!
وجاء الفصل الثاني بعنوان (البناؤون) وقسمه المؤلف إلى ستة أقسام أولها «البناؤون» وشرح فيه المقصود بالمهنة والتدرج فيها بدءاً من صبي مروراً بالمْلَبِّن والمْشَبِّع والمْلَيِّق وانتهاءً بـ (الستاد) وهي أعلى درجة في السلم المعماري. والقسم الثاني يشتمل على «التفاوض والاتفاق» ويكون ذلك باتفاق الفلاح مع بَنَّاء لبناء بيته والتفاوض بينهما على عدد العمالة ومواد البناء وطريقة الدفع والسداد وعدد ساعات العمل اليومي. وبعد الاتفاق تتم معاينة الأرض ومن ثم تخطيطها. والقسم الثالث يدور حول «تجهيز مواد البناء» ويكون بالاتفاق مع جميع عمال البناء بتأمين المواد الأساسية لبناء المسكن كل فيما يخصه. وهذه المواد متوفرة من البيئة المحلية ؛ لكنهم يعملون على تجهيزها وتهيئتها. والطريف أن القصَّاب (الجزار) يشترك في عملية البناء وذلك بإعداده حبال (الزد / القِد) من جلد رقبة البعير وتستعمل لتثبيت الأبواب والسواكف.
ثم انتقل الكاتب إلى القسم الرابع وهو «أدوات القياس» وفيه يوضح أن الستاد يعتمد عند تخطيط المسكن الفلاحي على عدد من الأدوات المادية والحسية! وضرب أمثلة للأدوات المادية بالمقاييس الإنسانية كالذراع والشبر وغيرها، أما القياس الحسي فيكمن في عين الزاوية (نظرة عين الحمامة) والتي تعني حِرَفية استاد البناء.
أما القسم الخامس فخصصه الكاتب لـ «تخطيط المسكن» حيث وضح أن المساكن الفلاحية لا تتعدى ثلاثة مخططات يمكن وصفها بأنها نواة لمخطط واحد له خاصية المرونة من حيث الاتساع والتمدد الأفقي والرأسي. وختم هذا الفصل بالقسم السادس الذي تكلم فيه عن «العوامل المؤثرة على تخطيط المساكن الفلاحية» وذكر منها العوامل البيئية والاجتماعية والاقتصادية، كما ذكر أمثلة لبعض التقنيات التي تساهم في حماية المساكن مثل طينة اللياق التي تحمي الجدران من الأمطار، وتعليق أشجار الشبرم الشوكي على النوافذ لمنع دخول الحشرات والسماح بدخول الهواء!
أما الفصل الثالث فيدور حول (العناصر المعمارية للمسكن الفلاحي التقليدي وأسلوب البناء) وجاء مقسماً إلى ستة أقسام. القسم الأول يدور حول عناصر الإنشاء» وذكر منها عشرة عناصر أساسية لا بد من تحقيقها عند بناء المسكن الفلاحي وهي الأساسات والجدران والأسقف والغُمَاية والأعمدة والحجول والساكف والتحنيك والعسبان والتنعيل.
ثم انتقل إلى القسم الثاني وهو «عناصر الاتصال والحركة» وشدد على أهميتها في بيت المزارع ومن أهم هذه العناصر الأبواب والنوافذ وذكر مسمياتها المختلفة تبعاً لموقعها في المنزل وطريقة تصميمها وعلاقة النقوش فيها بالمستوى الاقتصادي لصاحب المسكن! ثم تابع الكاتب إيراد عناصر الاتصال والحركة ومنها القُبَّة والحوش وغيرها.
أما القسم الثالث فهو «عناصر الوقاية والحماية» وفيه يبين أن البنائين عند قيامهم ببناء المساكن يراعون عدة أمور كالعمل على حماية المسكن من العوامل المناخية وذلك برفع جدرانه على أساسات حجرية، وعدم توجيهه نحو الشمال لتجنب الرياح الباردة. ومن عناصر حماية البيت وقايته من الحريق والدخان وذلك بتجهير مكان مناسب لإشعال النار سواء في مشب القهوة أو مكان طبخ الطعام أو التدفئة، مع الحرص على تصريف الدخان بواسطة السماوة أو الفرجة.
والعنصر الثالث للحماية هو وقاية المنزل من أعين الغرباء وذلك برفع سترة السطح ورفع مستوى الجدار المقابل لباب المسكن وكذلك عدم تقابل أبواب المساكن مراعاة للخصوصية. أما العنصر الأخير للحماية فهو الحماية من الطيور والحشرات ويكون بعدة طرق، منها تعليق نبات الشبرم الشوكي مقلوباً بعد تجفيفه بالنوافذ لصد الحشرات. ومنها أيضاً ما يسمى بيت الذباب وهو عبارة عن عسيب يغرس بجدار إحدى الغرف ليقع عليه الذباب فيحد من حركته وإزعاجه. ومن طرق الحماية من الحشرات حفظ ما يتبقى من الطعام بقفة مربوطة بحبل يتدلى من السقف تسمى (العرزالة).
أما القسم الرابع فهو «العناصر الزخرفية» وهي نوعان عناصر زخرفة خارجية مثل الشرفات والزرانيق وغيرها،وجميعها تبنى من الطين. وعناصر زخرفة داخلية مثل الكمر والمُحْكُمة وغيرها، وجميعها تبنى من الجص، ويحرص النقَّاش (المجصص) على نقش الزخارف بأشكال هندسية متعددة وتلوينها بألوان محصورة بالأحمر أو الأخضر أو الأصفر. والقسم الخامس هو «العناصر البنائية النفعية» والمقصود به المنافع التي يحتاجها سكان المنزل الفلاحي، مثل الصوبة وهي عبارة عن مخزنٍ لحفظ القمح أو التمر بأنواعه. وكذلك الكمر لحفظ الدلال والأباريق والمباخر، والوجار مكان إشعال النار وهما يبنيان في أحد أركان مجلس الرجال (القهوة). ومن العناصر أيضاً المصك أي الخزنة التي تُحفظ بها الأشياء الثمينة. كما تحدث الكاتب عن عناصر نفعية أخرى..
والقسم السادس والأخير من العناصر المعمارية للمسكن هو «عناصر التهوية والإضاءة « وذلك بحرص الفلاح على بناء بيته الطيني وسط المزرعة بين أشجار النخيل لتأمين الظل والهواء العليل. واهتمامه كذلك بتخطيط بيته بطريقة توفر له الإضاءة نهاراً من خلال بناء المنور كالمصباح والشمسة والسماوة، أما في الليل فيعتمد في الإضاءة على السراج.
وجاء الفصل الرابع تحت عنوان (إعادة التصور للمشهد الثقافي الفلاحي) وذلك من خلال الاستعانة بلوحات فنية للفنان التشكيلي صالح النقيدان حيث عرض 16 لوحة لمحتوى المسكن الفلاحي وما يحيط به من داخل وخارج حدود مزرعته.
وفي نهاية الفصل خلص الكاتب إلى نتائج من الدلالات والمؤشرات الأثرية ورجَّح أنها ستساعد من يعملون في الحقل الأثري وستكون مفيدة لهم.
أما الفصل الخامس والأخير فعرض فيه الكاتب (النتائج والتوصيات) فأوضح أن الحاجة للمساكن الفلاحية التقليدية لم تعد قائمة في عصرنا هذا لغرض السكن؛ لكنه أكد على الدعوات المتكررة لإعادة إعمار كل ما هو قديم، لا من أجل التسلية إنما من أجل تأمل القضايا العمرانية الحديثة. ودعا لإعادة تفسير منجزات الماضي من خلال الوعي بقيمة ما نملك من أصول ثقافية، والحفاظ على البعد التاريخي والحضاري والإنساني والاجتماعي والاقتصادي للمساكن الفلاحية، وكذلك الحفاظ على الموروث الفلاحي وتنميته.
وقبل أن أختم أورد بعض الملاحظات البسيطة على طباعة الكتاب؛ كبعض الأخطاء الإملائية والنحوية والمطبعية كما ورد في جدول الألفاظ الدارجة مثل كلمة (الجازة والروزنة و المغرنة) حيث كتبت (الإجازة والروزة والمرغنة) مما أثار بلبلة وارتباكاً لدى القارئ، إضافة إلى عدم وضوح بعض الصور وكأنها قد التقطت ليلاً أو بدون إضاءة! كما كنت أتمنى ذكر اسم الفنان التشكيلي صالح النقيدان كاملاً حفظاً لحقه الأدبي.
في الختام أشكر الدكتور أحمد العبودي على صحبته لنا في هذه الجولة السياحية الفكرية من خلال المعلومات القيمة التي وردت في هذا الكتاب، وأدعو محبي التراث للاطلاع عليه وقراءته والاحتفاظ بنسخة منه.
- فوزية الحميضي