من المعروف أن الشركات باختلاف تصنيفاتها تقوم بدور مهمٍّ وحيويٍّ في اقتصاد أي دولة من دول العالم، بل قد يمتد هذا الدور إلى الاقتصاد العالمي ككل، وهذا الدور الاقتصادي للشركات يكون في صورة المساهمة في زيادة معدَّلات النموِّ. وتوفير السلع والخدمات وفرص العمل، وتوفير إيراد ضريبي لخزانة الدولة.
وفي ظلِّ الأزمات المتتابعة التي تضرب الاقتصاد العالمي، بدأت معظم الدول تعاني من انتشار ظاهرة تعثر وانهيار الشركات، وقد حظيت هذه الظَّاهِرَة باهتمام معظم دول العالم واهتمام المؤسسات الماليَّة الدوليَّة وفي مقدَّمتها البنك الدولي، وأصبحت الحكومات والمؤسسات تبحث في أسباب تعثر وانهيار هذه الشركات وكيفيَّة التَغَلُّب عليها. ولأننا في المملكة نشهد بين فترة وأخرى تعثر إحدى الشركات المساهمة أو العائليَّة وتأثيرها على عدد غير قليل من الأفراد وعلى النَّشاط الاقتصادي بصفة عامة وكان آخرها شركة المعجل، فإننا معنيون بدراسة هذه الظَّاهِرَة والبحث عن حلول لها وتوعيَّة المديرين وأصحاب رأس المال بكيفيَّة حمايَّة الشركات الوطنيَّة من التعثر والانهيار.
ومن الطّبيعي أن يكون السؤال الأول المطروح علينا هو: لماذا تتعثر بعض الشركات؟ وقبل أن أتطرَّق إلى الإجابة على هذا السؤال المحوري لهذا المقال أودُّ التأكيد على عدد من الأمور المهمة، الأمر الأول أن تعثر وانهيار الشركات أزمة متجددة وليست جديدة في العالم، كما أنها لم تصل بعد لحدِّ الظَّاهِرَة في اقتصادنا الوطني وإنما مُجرَّد حالات فرديَّة، فاستقراء التاريخ يكشف لنا عن أن الاقتصاد العالمي تعرض لموجات متكرِّرة من هذه الظَّاهِرَة ولكن بدرجات متفاوتة من حيث حدتها وانتشارها، وكذلك تنوّعت أسباب هذه الظَّاهِرَة واختلفت آليات علاجها من حالة إلى أخرى. والأمر الثاني هو تغيّر البيئة التي تعمل فيها الشركات في السنوات الأخيرة، حيث ظهرت العديد من المستجدات والعوامل التي أثّرت ومازالت تُؤثِّر على دور وهياكل الشركات بدرجات متفاوتة من دولة إلى أخرى، مثل تقليص دور الحكومات في النَّشاط الاقتصادي، واتجاه الدَّوْلة إلى القيام بدور المنظم وراسم السياسات، وتسارع وتيرة تحرير التجارة العالميَّة، واتجاه معظم الشركات للنظر إلى الأسواق الدوليَّة للحصول على حصة أكبر منها، والتغيّر والتطوّر السريع في تكنولوجيا المعلومات والنظم الرقميَّة التي تطبِّقها الشركات، والاتجاه الواسع والسريع نحو إحلال المؤسسين للشركات والملاك من العائلات بمديرين تنفيذيين يَتَمتَّعُون بمستويات تعليميَّة ومهارات عاليَّة، ويقيمون الأمور بطريقة مختلفة عن المؤسسيين والملاك.
وفي ظلِّ هذه الظروف والمستجدات أصبح من الطّبيعي أن تَتَعرَّض بعض الشركات في أيِّ دولة من دول العالم لأزمات عابرة، أو أزمات تُؤدِّي إلى تعثر أو انهيار بعض هذه الشركات. فقد تتعثر بعض الشركات لأسباب تخرج عن نطاق سيطرة الحكومات أو سيطرة مجالس الإدارة فيها، مثل الدورات الاقتصاديَّة والركود العالمي وتأثير التقنيات الحديثة، وهذه الشركات تستحق مساندة الحكومات لإعادة تأهيلها وتعويمها حتَّى تتجاوز هذه الظروف. وقد تتعثر بعض الشركات بسبب الممارسات غير المشروعة لمنافسيها من الشركات الأخرى المحليَّة والدوليَّة، وهذه النوعيَّة من الشركات تتَكَفَّل الحكومات أيْضًا بحمايتها من هذه الممارسات مثل الممارسات الاحتكاريَّة وممارسات الغش التجاري والتعدي على العلامات التجاريَّة وعلى حقوق الملكيَّة الفكريَّة، وذلك من خلال تطبيق النظم المحققة لهذه الحمايَّة، مثل نظام حمايَّة المنافسة، ونظام مكافحة الإغراق، ونظام مكافحة الغش التجاري، ونظام حمايَّة العلامات التجاريَّة وحقوق الملكيَّة الفكريَّة. والنوع الذي نركز عليه هنا هو الشركات التي تتعثر بسبب طبيعة هيكلها، وبسبب الممارسات الخاطئة التي تقوم بها الإدارة في هذه الشركات.
وقد أثبتت الدِّراسات والتجارب الدوليَّة أن تعثر وانهيار الشركات يرجع في الغالب إلى الممارسات التي تقوم بها الإدارات في هذه الشركات وفشلها في تطبيق قواعد ومبادئ الحوكمة الرشيدة، وتراخي الرقابة الداخليَّة والخارجيَّة على ممارسات إدارات هذه الشركات، وهذا الأمر واضح في تجارب شركات دوليَّة مثل شركة إنرون، وشركة جلوبال كروسنج، وشركة فيفندي يونيفرسال، وتُعدُّ تجربة شركة المعجل تجربة محليَّة تعكس بقوة مسؤوليَّة الإدارة والرقابة الداخليَّة والخارجيَّة عمَّا آلت إليه أوضاع الشركة وما حدث لها من تعثر.
ومن خلال قراءة متأنيَّة لحالة عدد كبير من الشركات التي واجهت مشكلة التعثر في عدد متنوّع من الدول ومن بينها المملكة، يمكن حصر أهم الممارسات التي تُعدُّ من أسباب تعثر أو انهيار الشركات في عدَّة ممارسات أهمها: سوء استخدام حقوق صغار المستثمرين، فالمشكلة ليست في وجود قواعد تحكم وتحافظ على حقوق المساهمين باختلاف حجم مساهمتهم، ولكنَّها تكمن في تنفيذ هذه القواعد من قبل إدارة الشركات، لأن عدم تطبيق هذه القواعد تجعل المساهمين يؤمنون بمقولة إما أن تمتلك أغلب أسهم الشركة وإما أن تخسر، خاصة في الشركات التي تتميز بارتفاع نسبة ممثلي كبار المستثمرين في مجالس الإدارات مقارنة بصغار المستثمرين. كذلك فإنَّ قيام الإدارة ببيع جزء من نصيب الشركة في الشركات الأخرى بقيمة تخالف الثمن الحقيقي لهذه الأنصبة مقابل تحقيق مصالح شخصيَّة يضع الشركة على حافة التعثر والإفلاس، كما أن الاتجار الداخلي والتَّعامل مع الذات لتحقيق أرباح شخصيَّة من قبل الإدارة، وذلك مثل التلاعب في بيع الأسهم بأسعار صوريَّة، والقيام بعمليات بيع داخليَّة، أو طرح أوراق ماليَّة للبيع من دون موافقة اللجنة أو الجهة المختصة تُعدُّ ممارسة مؤديَّة للتعثر، يضاف لما سبق مشكلة عدم وجود سيطرة فعليَّة على ممتلكات الشركة وأصولها من قبل الملاك الفعليين لرأس المال، مما يتيح للإدارة أو بعض عناصرها استخدام نفوذها لاستغلال موارد الشركة لتحقيق مصالح شخصيَّة، أو لتحقيق أغراض لا ترتبط بمصالح وأهداف الشركات المباشرة، ناهيك عن عدم السيطرة على برنامج مكافآت الجهاز الإداري للشركة، وعدم الإفصاح عن المعاملات مع الأطراف ذوي العلاقة، والتلاعب في إعلان نتائج الأعمال عن طريق الإصدارات والإعلانات الصحفيَّة قبل نشر القوائم الماليَّة.
كما أن شركات المحاسبة والمراجعة تلعب دورًا مباشرًا في تعثر وانهيار الشركات لأنَّها قد تساعد الإدارة في إخفاء الممارسات التي تمَّت بغرض تحقيق مصالح شخصيَّة، وغيرها من الممارسات غير الرشيدة التي كانت سببًا مباشرًا في تعثر أو انهيار هذه الشركات.
وجملة القول في الإجابة على السؤال المحوري الذي طرحناه في البدايَّة هو أن تعثر بعض الشركات وانهيارها سواءً في بلادنا أو البلاد الأخرى يكمن في غياب المهنيَّة والموضوعيَّة والإفصاح والشفافيَّة، والخلط بين مصالح الشركة والمصالح الشخصيَّة، أي أن السبب يكمن في غياب التطبيق الجاد لقواعد الحوكمة والإدارة الرشيدة، وغياب أو تراخي الدور الرقابي الداخلي والخارجي.
ومِنْ ثمَّ يمكن القول: إن وصفة العلاج التي يمكن أن تقدم لمثل هذه الشركات يجب أن تبنى من واقع هذه الشركات وبناء على دراسة كل حالة على حده، حيث إنه لا يوجد مقاس واحد يناسب الجميع في مثل هذه الحالات، وإن كانت توجد خطوط عامة تُعدُّ مداخل فعَّالة لعلاج تعثّر هذه الشركات، وهو ما سيكون موضوع مقال قادم إن شاء الله.
خبير قانوني