كما تعلمون أن إشكالية الثقافة في أساسها إشكالية فكر، تتعلق بطريقة تفكيرنا وفهمنا للأمور في قضايانا سواء الاجتماعية أو السياسية أو الدينية. ونحن في هذا العصر بأحداثه السريعة ومتغيراته نعيش حالة غربلة إن جازت التسمية نناقش فكرنا وقضايانا، نطرح منها ما كان سلبيا ونعزز ما كان منها إيجابيا وهي صفة من صفات الحراك الثقافي وبوادر النهضة في بلادنا العربية، سوف نتطرق في هذا المقال إلى بعض معوقات الفكر وأعمال العقل خصوصا فيما يتعلق بثقافة الحوار.
في قضايانا وحوارنا جميل أن يكون حوارنا حوارا راشدا، بمعنى أن نُعمل الفكر في القضية التي أمامنا ونستخدم جميع الوسائل المتزنة لفهم المشكلة كتحليل، تفصيل، تخصيص، تعميم، ترجيح، قياس ومن ثم النظر إلى جميع الآراء المعتبرة، بعد ذلك تأتي مسألة الحوار لتبني على ذلك الجمع المعرفي. ولكننا نجد أن ثقافة الحوار تصطدم عادة بمعوقات، والغريب أن تلك المعوقات ليس سببها القضية مدار النقاش ولكن في حقيقتها معوق من معوقات الفكر. المختصون يخبروننا بأن هناك عدة أمور من معوقات التفكير وأعمال العقل- ولعلي أقتبس منه شيئا للاستفادة منه في مقالي هذا- وهي: «ضباب رؤية وهدف، الهزيمة النفسية، التسرع في إطلاق الأحكام والتفكير الانفعالي، التقليد، والتفكير المطلق وقطعية الحكم على الأمور». وكل معوق منها يستحق النظر والتأمل، ولكن ما يتعلق ويرتبط بشكل مباشر بثقافة الحوار هي: التفكير الانفعالي، التقليد، والتفكير المطلق وقطعية الحكم على الأمور، فالتفكير الانفعالي لا يُفضي أبداً إلى حوار موضوعي، أما التقليد فمنه التقليد الأعمى أو اقتباس الآراء دون التحقق من صحتها، وأخيراً التفكير المطلق وقطعية الحكم على الأمور والتي منها عدم التفكير بإيجاد حلول وسط.
نجد عادة في حواراتنا بعضا من الرؤية السلطوية -الدوغمائية- أو القول بالرأي الأوحد الصحيح الذي لا غبار عليه وكأنه حكم الله وقائله لا يعلم أهو أصاب أم أخطأ. الحقيقة هنا نقف.. وقفة تأمل.. فكثيرا ما نجد مثل هذا في خطابنا الديني، ولو تأملنا لوجدنا أن ديننا الحنيف دين سعة ويسر، بل إن بعض الفقهاء- مثل الشيخ القرضاوي- يقول: إن الأمور الخلافية الفقهية تصل إلى أكثر من خمسة وتسعين بالمئة من المسائل الفقهية. فكيف لنا بعد ذلك أن نأخذ بقطعية الحكم في الأمور الاجتهادية.
ما ذكرنا يُعد مثالاً على المعوق الأخير من معوقات التفكير المسمى التفكير المطلق وقطعية حكم الأمور، وقد تتطور المسألة بأن يكون القائل مقلداً تقليداً أعمى لم يتحقق بعد من صحة الأمر.
الحقيقة أن المشكلة فكرية في أصلها وإن تشكلت كل يوم في شكل جديد وقضية جديدة قد تكون الدوافع لذلك الاندفاع والقول بالرأي الأوحد هي دواع نبيلة وكريمة، ولكن النتيجة واحدة وهي إنتاج معوق من معوقات التفكير بالتقليد والتفكير المطلق وقطعية الحكم على الأمور.
ما أحوجنا لفقه الخلاف، هل يعلم من يرى بأن رأيه هو الرأي الصواب الأوحد، إن الشافعي كان يقول: «كلامي صواب يحتمل الخطأ وكلام غيري خطأ يحتمل الصواب». فما بالنا نحن -عامة الناس- ليس لنا في الأمور الفقهية إلا الترجيح - وليس التخيير- عند اختلاف الآراء المعتبرة كما هو قول جماعة من الفقهاء، فقد اختلف الأصوليون في حكم العامي أيكون مقلدا أم مجتهدا، فمنهم من أوجب التقليد ومنهم من رأى أن العامي يجتهد ويَتََّبع الأرجح لديه من الأقوال المعتبرة من العلماء المجتهدين مثل قول الشاطبي: «قول المجتهد دليل العامي». وكما هو معلوم قول ابن القيم:» إن الفتوى تتغير بالزمان والمكان والأحوال والنيات والعوائد» ومناط ذلك تحقيق مقاصد الشريعة، فهل لنا بعد ذلك أن نُسَيِّر المجتمع على اتباع ما نرى في أمور خلافية خصوصا في عصر جعل العالم قرية صغيرة امتزجت فيه الثقافات والعادات. هذا الميراث الإسلامي العريق من أدب الحوار نجده عند السلف الأوائل، وكذلك عند بعض الشيوخ المعاصرين حيث يمثل فقه الخلاف عندهم مبدأ من مبادئ الوسطية. الشواهد كثيرة في فقه الخلاف: يقول الإمام مالك: «كل يؤخذ قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر»، ويقول أبو حنيفة: «كلامنا هذا رأي فمن جاءنا بخير منه تركنا ما عندنا إلى ما عنده» ويقول الإمام أحمد: «لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا». فهذا السلف الصالح لا يدَّعون بأن رأيهم الحق، ولا يدعون صحة أقوالهم، ولا يدعون أن حكمهم هو حكم الله، بل هم «مجتهدون»....فما أحوجنا نحن إلى ذلك.
عوداً على بدء...
إشكاليتنا تعود كل يوم في أوجه وأشكال مختلفة ولكن في أصلها إشكالية فكرية، ومعرفة المعوق ومعالجته أفضل من الخوض كل يوم مع شكل جديد من معوقات الفكر. فالتقليد الأعمى أو التقليد بدون تثبت، وقفل باب الاجتهاد عائق أساسي من معوقات التفكير، بل إن كثيراً من المفكرين يرون أن أول أسباب تخلف الأمة الإسلامية بعد عزها كان عندما بدأ التقليد وقُفِل باب الاجتهاد، كذلك الدوغمائية وقطعية الحكم بالأمور الاجتهادية تبلد الفكر وتميته، بل أمرنا وديننا وسطا.
ختاماً..
توجد قضايا مصيرية للأمة نحن بالخيار فيها، إما أن نوجه فكرنا بالتشديد والتضييق والأخذ بالأحوط أو أن نرى الأرجح والأصلح خصوصا في ما يتعلق في مصالح الأمة وتنميتها وتطورها.
وقفة تأمل..
يقول المفكر الإسلامي محمد إقبال:
أين منهم جرأةُ العقل لدى
محفَل يهفو إلى الفكر مشوق
آه للتقلـيد والأسر بما
ألفوه وزوال التحقيق
- بريطانيا: جامعة كاردييف