توسعة المسجد النبوي لم يأمر بها الملك الصالح فقط من أجل كونها حقاً للمسلمين عامة، وأنها بعض اعتراف بنعمة الله على أن جعل الديار السعودية خادمة للحرمين الشريفين، بل لكون التوسعة أيضاً تحقق رغبته ونظرته - حفظه الله - الوسطية في التوسع المذهبي بقبول جميع المسلمين بعمومهم باختلاف مذاهبهم التي ارتضاها علماء أهل السنة والجماعة.
هناك خلط في مفاهيم كثير من المسلمين حول حجرة عائشة - رضي الله عنها - أشرف بقعة على وجه الأرض وأطهرها كونها مرقد الرسول الكريم وصاحبيه، والمسجد النبوي ثاني أفضل بيت من بيوت الله في الأرض. فهناك من يقول إن الحجرة الشريفة هي الأصل، وهناك من يقول إن المسجد هو الأصل. والصحيح أن كلاهما أصل، وكلاهما مكان مستقل بالشرف والحكم والمكانة. ولن أعيد اليوم ما يعرفه الجميع من وصاية رسول الله قبل موته بما يتعلق بقبره، وبما أحدثه الوليد من إدخال القبر إلى المسجد، وذلك بعد وفاة الصحابة كلهم أجمعين. لكني اليوم أريد أن أوضح أن القول بأن القبر أُدخل على المسجد أو القول بأن المسجد أدخل على القبر هما قولان كلاهما معتبر منطقياً، لكنه مختلف نتيجة. فالقول بأن القبر أُدخل على المسجد فهذا يعني أن الأصل هو المسجد، ويوصف المكان كله بالمسجد النبوي، وفيه القبر الشريف، وينبني على هذا أن تكون الأولوية للصلاة والاعتكاف لا للسلام على الرسول وصاحبيه. وأما القول بأن المسجد أُدخل على القبر فهذا يعني أن الأصل هو القبر، ويُوصف المكان بالقبر النبوي، وأن فيه المسجد النبوي. وينبني على هذا أن السلام على النبي وصاحبيه مقدَّم على الصلاة المفروضة والاعتكاف. وفي مقال اليوم أريد أن أبيّن أن تصميم التوسعة الجديدة لا يدخل في هذا الخلاف، بل هو إلى حد بعيد يحل الخلاف ويفصل بين المتنازعين، ويعيد الأمور قريباً إلى وضعها زمن الخلافة الراشدة. وذلك بأن هذا التصميم الجديد جعل كلاً من المسجد والقبر أصلاً مستقلاً دون أن يفصلهما مكانياً. وبهذا فالتوسعة الجديدة هي توسعة مذهبية على الطرفين كما أنها توسعة مكانية.
فالوضع اليوم هو أن كل من أتى لزيارة المسجد النبوي أو من أجل الصلاة اليومية في المسجد، ابتداء من إمام الحرم والمؤذن والمجاورين في المسجد ومن طلبة العلم، وانتهاء بأهل المدينة والمعتكفين من الزوار في رمضان، كلهم يستلزم عليهم أن يزاحموا من أتوا من أطراف الأرض من الحجاج والزوار الذين يريدون السلام على النبي وصاحبيه والصلاة في الروضة. والتوسعة لن تلمس المسجد القديم، ولن تغير منه شيئاً؛ فهي بذلك تُرضي وترفع المزاحمة عمن يغلو في رأيه فيرى أن القبر هو الأصل، ويريد أن يكون المسجد تبعاً للقبر. والتوسعة بالبناء الجديد كذلك سترضي العكس من الغلاة، وهم من يغلون في رفض بقاء القبر الشريف داخل المسجد النبوي والمطالبة بجعله مستقلاً تماماً (وأنا من هؤلاء الغلاة)، فلماذا نُجبر على الصلاة عند القبر الشريف وفي قلوبنا حرج من ذلك، ونزاحم الزوار والحجاج في الروضة ونحن نريد الاقتراب من الصفوف الأولى؟ فلله در الملك الصالح، وجزى الله المصمم خيراً بأن وسع على المسلمين في مصلاهم كما وسع عليهم في معتقدهم الذي يدينون الله به، فأرضى الطرفين والوسط الذين لكل منهم سلف صالح كان على مذهبهم ورأيهم، فما وسع السلف بطرفيه ووسطه يسعنا.
والمقال لا يتسع لكثير من التفاصيل لشرح الأسباب الأخرى لهذا التصميم بسبب التحديدات الجغرافية والبنيانية، اللهم إلا أنني أحب التطرق إلى بعض ما ذُكر عن هدم بعض الآثار الذي ستسببه التوسعة. فبغض النظر عن صحة هذه الآثار فإن التعلق بها وممانعة إزالتها - ولو من أجل مصلحة أهم - هو طبيعة إنسانية في كثير من الناس؛ بدليل ما ذكرته كتب السيرة أن عمر بن عبدالعزيز والتابعين والفقهاء وأهل المدينة جلسوا يبكون عندما جاء أمر هدم الحجرات من الوليد بن عبد الملك من أجل توسعة المسجد، كما ذكرت الآثار ممانعة بعضهم ومقاومتهم لذلك. ولكن مصلحة المسلمين وطاعة ولي الأمر هي التي قدمها عمر بن عبد العزيز على عواطف الناس كما قدمها جده الفاروق ابن الخطاب رضي الله عنه من قبل في هدم بعض الآثار. ومن المسكوت عنه أن النظرة السطحية للأمور إذا اقترنت بالعواطف قلبت الحقائق فجعلت الفتح هزيمة، وقلبت الفرح ترحاً. فإذا ما اقترنت سطاحة الفكر بسوء الظن فهنا ينغلق على الفهم، ويُعمى القلب، فما يعود يميز حقاً من باطل، فتراه يعادي الصالح ويناصر الطالح.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem