استعملت أمريكا أكثر من أربعين مرة حق النقض الفيتو في مجلس الأمن لوقف كل القرارات المنددة والمنتقدة لإسرائيل، وأستشهد دائماً في كتاباتي ومحاضراتي بأحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية السابقين جيمي كارتر الذي في كتابه الأخير (فلسطين: السلم لا التمييز العنصري)
يعطي جولة الحق وصولته للفلسطينيين ويشرح لنا جهل الشعب الأمريكي لحقيقة المشكل الفلسطيني الإسرائيلي على شاكلة جهله بالإسلام: “هناك عاملان أساسيان ساهما في طول أمد العنف والانتكاسات الإقليمية: موافقة البيت الأبيض في السنوات الأخيرة على الأفعال غير القانونية لإسرائيل، مدعمة من طرف الكونكريس الأمريكي، ولا مبالاة القادة الدوليين. هناك في إسرائيل حوارات اجتماعية وإعلامية لا متناهية عن السياسة التي يجب اتباعها في الضفة الغربية، ولكن بسبب قوة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية، نادراً ما تنتقد السياسات الإسرائيلية، كما أن الأمريكيين في غالبيتهم يجهلون الأوضاع في المناطق المحتلة. وفي سنة 2003، استغرب الأمريكيون وأغضبهم استطلاع رأي قامت به جريدة محترمة (International Herarld Tribue)، حيث استجوبت ما يزيد عن 7500 مواطن من الدول الأوروبية، واعتبروا أن إسرائيل تشكل بحق تهديداً للسلم والأمن العالميين أكثر من كوريا الشمالية، إيران أو أفغانستان”، ولتحقيق السلم بين الإسرائيليين والفلسطينيين، دعا الرئيس التاسع والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية في نهاية كتابه إلى احترام الشرعية الدولية وتطبيق قرارات مجلس الأمن، يعني القرار 242 (1967) والقرار 338 (1973)، وبمعنى آخر الرجوع إلى حدود 1967. وبعد دراسته للقضية الفلسطينية في كل الكتاب، ندد الرئيس جيمي كارتر بمنطق التمييز العنصري المطبق الذي يمنع كل تطور اقتصادي للفلسطينيين حيث كدر صفو حياتهم وسلب أرضهم ودمر صروح حضارتهم وتطورهم وعرقل مسيرة تنميتهم.
وهذا الكلام هو لرئيس أمريكي يعي ما يقول، فأصل جهل الشعب الأمريكي لما يقع في الأراضي المحتلة هو السياسة الدعائية التي يقوم بها الإسرائيليون واللوبي اليهودي المساند لتجريم الفلسطينيين ورد كل الانتكاسات المريرة إليهم، فيصبح بذلك الشعب الفلسطيني هو المتعدي، هو المجرم، وهو الإرهابي الذي يضرب له ألف حسبان؛ كما لعبت الإدارات الأمريكية المتتالية دورا كبيرا في تفاقم الوضع الفلسطيني بالدفاع المستبين عن إسرائيل وحمايتها من القرارات الأممية المنددة، وأظن أن دبلوماسية الجمعية البرلمانية المتوسطية وتأثير دول الاتحاد من اجل المتوسط مجتمعة وشجاعة المجتمع المدني العالمي باستطاعتها أن تقلب الأوضاع إذا تحلى الجميع بالجرأة لحل مشكل أجيال عاشت في الهم والغم وفي الكمد والكبد ملأت نفوسهم الأحزان وتوجعت قلوبهم بالآلام وتلاشت أعمالهم في بزوغ فجر عالم الاستقلال، يسوده العدل والأمن والاستقرار.
وبالإمكان أن أسرد هنا ما قاله أحد كبار الصحفيين المختصين الإسرائيليين جوناثان كوك في عرض حديثه عن رؤية الإسرائيليين وقادتهم للتحولات العربية السريعة، ونرى في حديثه تخوفا من هذا المزاج الثوري الجديد لدى الفلسطينيين والشعوب العربية المجاورة الواثقة بقدراتها، مما يلغي شعور الإسرائيليين من أنهم في حصن يهودي آمن، وهذا المزاج يشكل تهديداً بقدر السلاح النووي الإيراني حتى لو لم يضغط أحد على أي زر.
يقول الصحفي الإسرائيلي: “حذّر ايهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي المتشدّد، أنّ الفلسطينيين يركبون “تسونامي دبلوماسي”، أطلقتها التحولات العربية، ستؤدّي حتماً إلى اعتراف دوليّ متزايد بالدولة الفلسطينية، وإلى عزلة لإسرائيل أكثر من أيّ وقتٍ مضى. في حين أظهر بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء اليميني والمؤيد العنيد لإسرائيل الكبرى، أولى علامات التخبّط. حيث صدم حزب الليكود الذي ينتمي إليه في أواخر يونيو حزيران/يونيو من السنة الماضية حين أعلن تحوّله المفاجئ بقبوله الانفصال عن الفلسطينيين - وهي سياسة يتبعها تقليدياً اليسار الصهيوني - لضمان “أغلبية يهودية قويّة” داخل حدود “محدّدة”.
في الوقت نفسه، خلص شمعون بيريز، وهو رئيس البلاد، ومؤشّر المزاج الوطني، إلى أن مستقبل إسرائيل كدولة يهودية في خطر وشيك، ما لم يكن هناك اتفاق سلام مع الفلسطينيين، إذ قال: “نحن على وشك الاصطدام في الحائط. نحن نركض بأقصى سرعة نحو الحالة التي ستزول فيها إسرائيل من الوجود كدولة يهودية” فالتحولات العربية تهدّد بإطلاق موجةٍ قوية من التيارات السياسية والشعبية -وهي مزيج غريب من التيارات الإسلامية والديمقراطية - كانت قد بقيت ممسوكة منذ فترة طويلة من قبل الديكتاتوريات العربية المدعومة من الغرب.
هكذا أبرزت عمليتا الاقتحام الأخيرتان - في مناسبتين منفصلتين - من قبل لاجئين فلسطينيين للسياج “الحدودي” الذي أقامته إسرائيل لإبقاء مرتفعات الجولان السورية خاضعة لسيطرتها غير المشروعة.. إن مثل هذا الحدث لم يكن وارداً قبل اهتزاز نظام الرئيس بشار الأسد نتيجة الاضطرابات الراهنة. إذ لم يعد الأسد يستطيع تحمّل تأجيج المزيد من المعارضة من خلال تضييق الخناق على المظالم المشروعة للاجئين الذين يؤكّدون على حقّهم في العودة إلى وطنهم.
وعلى نحو مماثل، فإن الحكّام المؤقّتين الجدد في القاهرة - مهما صبغوا بالتواطؤ سابقاً مع حسني مبارك - لا يمكنهم تجاهل المطالب الشعبية لفتح الحدود مع قطاع غزة وتخفيف معاناة الفلسطينيين تحت الحصار الإسرائيلي. أو بالأحرى، ليس من المرجح لأيّ نظام مصري قادم- ديمقراطي أو غير ذلك - مواصلة سياسات مبارك إذا كان يريد تجنّب نفس مصير الرئيس المخلوع.
لهذه الأسباب، يستشعر الفلسطينيون العاديون، وللمرّة الأولى، أن السلاسل التي تكبّلهم - من قبل إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأنظمة العربية المجاورة - قد بدأت تتراخى. ولم تعد الحدود كما الجدران ونقاط التفتيش وحظر التجول الذين تفرضهم إسرائيل، عقبات منيعة أمام التحرّر الوطني كما كانت كلّها تبدو ذات يوم.
من وجهة نظر إسرائيل، تشكّل التغييرات في مصر وسوريا مثلا تهديداً على مستويين. الأول هو أنّه يلهب طموحات الفلسطينيين العاديين، ليس فقط لإنهاء الاحتلال بل أساساً لاستعادة حقوقهم وكرامتهم كشعبٍ، بعد عقودٍ من الحرمان والإذلال. هذه هي الآلية التي سيكون من الصعب أن تتوقّف، ناهيك عن إحباطها. المستوى الثاني هو أنّه هناك وعي لدى النخب إلاسرائيلية بأنّ التكلفة الحقيقية لبقائهم “فيلا في الغابة” - وهي العبارة المشهورة التي أطلقها باراك ذات مرّة عن وضع اسرائيل - سيتمّ الشعور بها في المستقبل أكثر من أي وقت مضى. فقد ولّدت اتفاقات السلام مع مصر والأردن، والحرب الباردة مع سوريا، هدوءاً اصطناعياً في السنوات الأخيرة، أفسح المجال للجيش الإسرائيلي كي يركّز طاقاته على عدوّه حزب الله اللبناني ولاحتواء أي مقاومة فلسطينية في الأراضي المحتلة.
ولكن، لن يتمكّن جنرالات إسرائيل بعد اليوم من الاعتماد على مستقبل يشنّون فيه الحروب التي يختارونها هم. وكما اكتشفوا في العام 2006 في حربهم مع حزب الله، سوف لن يكونوا قادرين على نقل المعركة إلى أرض العدو. إذ إن جبهة إسرائيل الداخلية معرّضة بالفعل بشكل خطير للصواريخ والقذائف.
إسرائيل عاشت لعقود على وقع الوقت الضائع والحماية الأمريكية و”المال المستعار” وكان جيشها واحتلالها الطويل يلقيان دعما كبيرا من الغرب؛ وأظن أن التحول العربي اليوم إذا كانت فيه إيجابية تحسب لصالح القضية الفلسطينية فإنها منذرة للحظة حساب لإسرائيل.